الحرب في اليمن وعلى اليمن ومآلاتهما

عبدالباري طاهر
الخميس ، ٠٤ مايو ٢٠١٧ الساعة ٠٨:٥٦ مساءً
الحرب مفردة كريهة وقاتلة في أي زمان ومكان. وهي في اليمن وباء مستوطن منذ مئات وآلاف السنين. فالاستقرار والسلام يكاد يكون الاستثناء. لندع التاريخ جانباً فهو تاريخ مهم، فيه ما هو زاهر بالحضارة والتمدن (أرض الجنتين) كتسمية القرآن الكريم، وفي جانب آخر حروب مستدامة ومتناسلة، شأن الأسرة الممتدة، أو كتسمية حزب الأحرار اليمنيين (الحركة الوطنية الأم) في المتوكلية اليمنية (التاريخ الآثم).
 
 
الحروب المستدامة إرث وتاريخ ممتد ومتطاول نستنشق باروده حتى اليوم. بيئة شرسة قاسية وعصية كوصف أبي الأحرار محمد محمود الزبيري. هذه البيئة ولادة للحروب وقابلة لها . الحروب الداخلية تستدعي غالبا داعمين ومحاربين. التحالف العشري الذي تقوده السعودية معنوي أكثر منه حقيقة أو قوة عسكرية فعلية. القوتان الرئيسيتان في هذا التحالف هما: السعودية ودولة الإمارات. توافق الحليفان العسكريان على تقسيم ميداني المعركة؛ ففي حين أوكل إلى الإمارات ميدان الجنوب، تكلفت السعودية بميدان الشمال . في زمن قياسي حققت الإمارات إنجازاً عسكرياً على قوات صالح وأنصار الله المرفوضة من قبل الجنوبيين، وبسبب وجود نواة مقاومة تمتد جذورها إلى الاشتراكي العسكرية وامتدادها الحراك الجنوبي المسلح، ثم وجود غضب ورفض وتعبئة ضد قوات صالح وأنصار الله. كان ذلك هو الأساس في الانتصار السريع على القوة التي ترفضها البيئة الجنوبية جملة وتفصيلا، وساعد الانتصار موقف الإمارات من حزب الإصلاح المحسوب على الشمال والوارط في الحرب ضد الجنوب إلى جانب صالح.
 
 
يعرف الجنوبيون أن جماعة الإصلاح والقائد علي محسن والرموز الدينية للإصلاح كانت أكثر حماسا للحرب ضد الجنوب، وتولى بعض هذه الرموز كبر الفتوى بتكفير الجنوبيين، ثم لا يوجد في الجنوب مواقف عدائية في التاريخ الحديث ضد الإمارات كل ذلك ساعد وعجل بالانتصار الخاطف.
 
انكسار حملة صالح وأنصار الله له علاقة أيضا باعتقادهما أن دولتهما الحقيقية هي أرض الجمهورية العربية اليمنية -أي الشطر الشمالي-؛ فهما ينظران إلى الجنوب كنقطة تنازع تم إخضاعها بالقوة؛ فهي منطقة معادية، وليست جزءا من المتوكلية اليمنية .
 
 
السعودية وميدان الشمال
 
 
للسعودية تحالفات قبلية وسياسية قديمة. فحاشد أقوى القبائل اليمنية كان شيخها عبد الله بن حسين الأحمر  من أهم حلفاء المملكة، وكان كثير من قيادات التجمع اليمني للإصلاح على علاقات جيدة بالسعودية، ويعود للسعودية الفضل في تدعيم نفوذهم في الشمال، وسيطرتهم على التربية والتعليم، والتوجيه والإرشاد في المساجد والجيش والأمن، وفي مساندتهم في المواجهات المستمرة ضد أي محاولة تجديد أو تحديث في الحياة الفكرية والسياسية والثقافية، وفي التصدي للتيارات القومية واليسارية التي وصلت حد المواجهات العسكرية في المناطق الوسطى في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
 
 
اعتمد التحالف السعودي – الإماراتي على القصف الجوي، في حين ركزت السعودية على القصف الجوي وعلى الحرب البرية عبر تحالفاتها القبلية القديمة، وصلاتها ببعض قيادات المشايخ الموالين للإصلاح، وبالقيادات العسكرية الإصلاحية بقيادة الجنرال علي محسن صالح الأحمر، وأيضا على مقدرة الإصلاح الواسعة في مدن الشمال الذي لعب دورا في التحشيد للحرب والتجنيد لها.
 
تحالف صالح وأنصار الله والانقلاب الذي قاداه ضد الشرعية المعترف بها دولياً خلق اصطفافاً واسعاً ضدهما في الشمال والجنوب. للسعودية أوراق كثيرة في اليمن، ولكنها بسبب ما لا تحركها كلها، أو تستغني عن بعضها؛ فهي -أي السعودية- قد تعاملت كثيراً مع هذه القوى التي خذلتها أكثر من مرة، وبالأخص صالح ومشايخ حاشد.
 
 
السلفيون المدعومون من الإمارات كانوا الأوفر حظاً، ولكن إجراءات عبد ربه الأخيرة ضداً على الحراك الجنوبي المسلح والسلفيين يفتح الباب أمام تساؤلات كاثرة . الفاجع أن اليمن الأقرب حسباً ونسباً للأب آدم -عليه السلام- يشهد تغيرات متسارعة وتقلبات لها أول وليس لها آخر في أزمنة قياسية. في العقد الأخير من القرن العشرين أطاح المؤتمر والإصلاح بالاشتراكي، ثم انقلب المؤتمر على الإصلاح، ثم انقلب الإصلاح بالانخراط في الثورة الشعبية على  المؤتمر . تقلبات سريعة ودراماتيكية ولكنها في الأخير قد تصل إلى اللاعبين أنفسهم. فالإمارات استندت في (تحرير) الجنوب على الحراك المسلح والسلفيين؛ فهي تخسر حلفاءها  لصالح الإصلاح (عدوها)، فهل تكون اللعبة أكبر وأبعد من قراءتنا ورؤيتنا؟ فالدولتان قوتان أساسيتان في مجلس التعاون الخليجي، وتخوضان معارك ضارية في الحروب في سوريا وليبيا واليمن، وهما في أشد الاحتياج لبعضهما. واللافت تسارع الأحداث، وتفكك التحالفات، ومحاولة اقتسام الغنائم قبل حسم المعركة. فما يجري في  عدن، وإعلان إقليم حضرموت، وتأييد الشرعية للإعلان كلها بحاجة إلى قراءة متعمقة.
 
 
لا يتصور أن تضحي السعودية بتحالفها مع الإمارات لصالح أي طرف حتى لو كانت الشرعية اليمنية . الصراع في اليمن كالصراع في المنطقة العربية له أبعاد تتجاوز الزعران المتقاتلين الظاهرين على خشبة مسرح الكوارث . التغييرات التي أجراها عبد ربه منصور بعد تردي علاقته بالإمارات وقواتها الموجودة في عدن والمتحالفة مع خصومه: الحراك المسلح، والتيار السلفي الذي يقوده الوزير هاني بن بريك مباغتة تعزز التحالف مع الإصلاح على حساب القوتين الأساسيتين التي قادت (تحرير) الجنوب: الحراك الجنوبي القريب من علي سالم البيض، والتيار السلفي المدعوم من الإمارات. فما أبعاد ودلالات ذلك؟ هل تضحي السعودية بالتحالف مع الإمارات لعيون هادي والإصلاح ومحسن أم للأمر علاقة بقرب حسم عسكري في مكان ما تشارك فيه قوات محسن والإصلاح؟ أم أن إعلان إقليم حضرموت الموجه أساسا ضد مطلب الدولة الاتحادية من إقليمين شمالي وجنوبي، وترك الصراع يأخذ مداه في المناطق الأكثر قابلية واستمرار التغذية؛ ليتمكن اللاعبون الأساسيون من إعادة رسم الخارطة الجديدة بدون عوائق، وربما يكون الحلفاء الجدد أوراقا تكتيكية في مسار لعبة شديدة التقلب وسريعة العطب.
 
 
صحيح أن التفكك والتصارع سيد الموقف في المنطقة العربية، ولكن الرهان على صراع سعودي- إماراتي فيه قدر من المبالغة والوهم. فهي محكومة بالقوى الأقدر على التأثير والحسم. فالمنطقة العربية كلها يعاد رسمها ليس بالقلم الأحمر كما فعل بيرس كوكس المفوض البريطاني في الثلث الأول من القرن الماضي، ولا بالتفاوض والتآمر كما فعل البريطانيون والفرنسيون في يالطا عقب الحرب الكونية الأولى .
 
 
ما يجري في العراق وسوريا وليبيا هو تفكيك الكيانات والعودة بها إلى مكوناتها الأولى. واليمن الكيان القديم طالما عرف التفكك والتمزق، وهو قريب عهد بكفر التفكك، وعهود اللادولة .
 
إعلان حضرموت له علاقة برفض فكرة الاتحاد الجنوبي المكون من إقليمين. وللحضارم تجربتهم المريرة مع أنموذج جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ومع أنموذج دولة الوحدة الجمهورية اليمنية، وحرب 94 .
 
 
واضح أن الحل السياسي متعسر، وأن رهان الأطراف المختلفة وخيارها لا يزال على حسم عسكري أو حدوث مفاجئة ما. مجيء الرئيس الأمريكي ترامب قَوَّى اتجاهات الحرب في غير مكان. استخدام القنبلة النووية (أم القنابل في أفغانستان)، والقيام بإنزال عسكري في البيضاء، والضربة الصاروخية ضد قاعدة الشعيرات بسوريا، وقيام إسرائيل بضرب مطار في ريف دمشق، والتصعيد ضد كوريا الشمالية، والدعم الواضح للنهج السعودي، والتصريحات النارية ضد إيران- كلها تؤشر لدعم خيار الحرب. ويبدو أن قرارات عبد ربه الأخيرة تصب في نفس الاتجاه. والأخطر من كل ذلك والخشية أن القرارات -بقطع النظر عن أي اعتبار- قد تؤجج الصراعات الجنوبية- الجنوبية، وتصدع جبهة الشرعية، وتغرس وتبعث صراعات الماضي الكالح في الجنوب إن لم تعالج حساسية الأوضاع معالجة صائبة وسليمة.
 
 
في اليمن الجائع المحروب لا يختلف المقاتلون على جلد الدب قبل اصطياده- كما يقال-، وإنما يتقاتلون على لحمه وشحمه وعظمه. الانتصار في الحرب ليس مجرد التفوق في السلاح، ولا القدرة على استخدامه فحسب رغم أهمية ذلك، وإنما يرتبط أيضا بصواب ودقة القرار، ومدى كفاءة الإدارة، والتعبير عن الإرادة العامة للمواطنين .
 
 
حرب اليمن ملغومة بالمكائد. فالأقاليم المتقاتل عليها وباسمها اختراع صالح والإصلاح؛ فهما من قدما الخرائط للمبعوث الأممي ابن عمر في مواجهة مقترح الإقليمين المقدم من الاشتراكي والناصري. والآن يقاتل المؤتمر وأنصار الله ضد الأقلمة، ويقاتل التجمع اليمني للإصلاح، ومعهم الرئيس عبد ربه منصور . ولا يستبعد غدا أو بعد غد تبدل المواقف؛ فالثابت لدى كل الأطراف المتحاربة هي الحرب التي تلد المال، والسلطان، وتلد حروبا متناسلة.
 
 
يستطيع المتحاربون الأشاوس وقوى التحالف تدمير اليمن، وتقتيل أهلها، وإعادتها إلى مكوناتها الأولى، ولكن السؤال: هل يستطيعون تحقيق الأمن والسلام والاستقرار،  وخلق الأنموذج الديمقراطي الجاذب للمنطقة كلها، وهو التحدي الحقيقي؟
الحجر الصحفي في زمن الحوثي