توكل الجائزة

عبدالباري عطوان
الجمعة ، ٢٨ اكتوبر ٢٠١٦ الساعة ١٠:٥٢ مساءً

لم تكن توكل وافدة ولا طارئة؛ فهي ابنة نجيبة لنضال تختزنه المخيلة الشعبية لمئات وآلاف السنين؛ فالشعب المتعطش لبلقيس وأروى يحرص على تخليد اسميهما.  كثيرون تعاقبوا على حكم اليمن أذواء وسلاطين وأمراء وأئمة ورؤساء ومحتلين ومستعمرين أيضا. نسى التاريخ الكثير منهم، ونساء أخريات تحدثت عنهم النقوش.. لم يعثر حتى اليوم على نقش باسم بلقيس المرأة التي أثنى القرآن الكريم على عظمة عرشها، خزنتها الذاكرة الشعبية والتفاسير، ورمزيتها تغذي مخيلة المبدعين حتى اليوم، ويتوسل إليها وبها للإنقاذ من تجار الحروب .

 

 بلقيس يقتتل الأذواء فانتدبي       إليهم الهدهد الأوفى بما ائتمنا

 

قولي لهم يارجالا ضيعوا وطنا     أما من امرأة تستنقذ الوطنا

 

كإبداع الشاعر السعودي غازي القصيبي

 

أما أروى فقد سطع اسمها في قلب التاريخ الوسيط. يصر أستاذ من أساتذة جيلنا (صالح عبده الدحان) أن اليمنيين مشغوفون بالحديث عن الازدهار والعدل في حكم بلقيس .

 

المرأة – حسب القرآن- والثورات والذاكرة الشعبية وأروى حسب تاريخ موثق. شكى عظماء اليمانيين من التجاهل والغبن: عمرو بن معد يكرب الزبيدي وأبو محمد الحسن الهمداني والإمام الشوكاني ولا تزال مرارة الشكوى في حلوق شعب اليمن اليوم.

 

توكل خرجت من قلب المدماة - كتسمية المتعدد المواهب محمود الصغيري - أو من مراعي سهيل كإبداعه أيضا . خرجت وعلى رأسها يمامة بيكاسو، وغصن زيتون أبو عمار في مواجهة صواريخ وقنابل ورصاص علي عبد الله صالح .

 

مجد  توكل كرمان ابنة المناضل الفاضل عبد السلام خالد كرمان أنها وجدت نفسها في مواجهة نظام شديد الهمجية والتخلف والاستبداد.

 

في اليمن، وتحديدا في زبيد، رقصة السيف والدف، الراقص والمحارب؛ ففي حين يهوى المقاتل بسيفه يقابله الفنان بالرقص والطبل والزمر، ويدور صراع مرير بين القوة، وفي النهاية يتغلب الفن على حامل السيف ( المقاتل)

 

لم تأت المناضلة من فراغ فقد سبقتها قوافل من الثائرات اللائي خرجن منذ فجر الحركة الوطنية في عدن في أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي: رضية إحسان الله صافيناز خليفة، وفتحية عبد الله، وعاتكة الشامي، وحورية المؤيد، وفوزية  نعمان، وثريا منقوش، وفوزية محمد جعفر، وأنيسة الصائغ، وشفيقة مرشد، ومن جيل الثورة: نجوى مكاوي، وعزيزة عبد الله، وعائدة علي سعيد، وزهرة طالب.

 

غياب الديمقراطية والحرية والعدالة والمواطنة أودت بالثورة إلى المهالك وتسيد الأمر الأطراف أو القوى الأكثر رجعية وتخلفا وجهلا وفسادا واستبدادا.

 

لم يأت نظام صالح امتدادا أو تطورا للحركة الوطنية الداعية للتحرر والخلاص من الاستبداد، وإنما جاء من مضارب داحس والغبراء، ومن تاريخ حروب الفيد والثار والتغلب؛ فهذا المتغلب لا يحتكم لغير القوة، ولا يؤمن بغير السيف، كان تابعا للشيخ الذي جاء به؛ فوضع الدولة تحت رحمة القبيلة، وحول اليمن كلها إلى رهينة ليقايض ويبتز دول الجوار والعالم و قبل ذلك شعبه.

 

جاءت توكل (الشوفة) ومعها الدكتورة رؤوفة حسن وأمة العليم السوسوة وجميلة علي رجاء وأروى عبده عثمان ورضية شمشير وعزيزة عبد الله وأمينة رشيد وأمل الباشا وطيبة بركات وألفت الدبعي وذكرى عباس ونادرة عبد القدوس ورمزية الإرياني وهدى العطاس وبلقيس اللهبي ووميض شاكر وأبلان وبشرى المقطري وإشراق المقطري وسهى باشرين ومها عوض ووفاء الخيبة وعفراء حريري وسامية الحداد والدكتورة نادية الكوكباني ووهبية صبرة ووهبية فارع ورشيدة القيلي ومسك الجنيد والعلس وفاطمة محمد وفاطمة مطهر وفطوم زيدان  وسامية الأغبري ورحمة حجيرة وماجدة الحداد وسارة جمال وهناء السياغي و سلمى الظاهري و سعادة علاية و ثريا دماج و الدكتورة امنه النصيري و اروى عون.

 

إنه زمن المرأة في اليمن.. كانت توكل بنت كرمان أول من نزل إلى المحافظات الجنوبية؛ لإعلان الدعم والتأييد والمساندة للمطالب الجنوبية للحراك الجنوبي، وألقت كلمة رائعة تؤكد فيها على حق الجنوبيين في استعادة حقوقهم المغتصبة .

 

كانت توكل حينها تختط طريقا بعيدا عن خط حزبها الذي كان لايزال ينوس بين الانشقاق عن نهج الحكم وبين التحاور بل والرهان على المشاركة، قبلها شاركت توكل في ندوة أقامها الأستاذ علي حسن سيف وبذكاء مدهش كرست الندوة عن حقوق المرأة: الدية، الإرث،  الولاية، الملمح الأهم أن الرجال من سلفيي الإصلاح وبناتهن هم وهن من شارك بأوراق في هذه الندوة؛ ففي حين طالب السلف الرجال تحريم المطالبة بالمساواة في الولاية أو القصاص أو الإرث أو الولاية، كان رأي بناتهن جد مختلف؛ فقد دعت الفتيات إلى المساواة والحق في الولاية، ولم تكن توكل بعيدة عن هذه المعركة التي بدأت في شورى الإصلاح من حول مشاركتها في الشأن العام للقيادة .

 

وقفت غالبية الإصلاح إلى جانب مشاركة المرأة و كان ذلك مؤشر تطور مهم داخل تيار تقليدي ومحافظ، ثم بدأت تتصدى للنزول إلى الميادين العامة، وكان لها فضل المشاركة في تأسيس (ميدان الحرية)، وفي تأسيس (صحفيات بلا قيود) وأسست (صحفيون ضد الفساد) وكانت عنوانا بارزا من أهم عناوين الثورة الشبابية الشعبية السلمية التي ساهمت في قيادتها، وصمدت وثابرت على مدى التسعة الأشهر من العام 2011 .

 

قادت المظاهرات وتحدت الرصاص الحي وآليات ومجنزرات صالح ودافعت عن الجعاشن اللذين هجرهم شيخ العدين .

 

هجرت بيتها لتقيم في الخيمة، وشنت عليها حملات غاية في القسوة واللا أخلاق. اختطفت بعد منتصف الليل لتودع السجن المركزي، وهددت بالقتل أكثر من مرة، وصبرت بعناد وعزيمة قل نظيرها .

 

توكل لم تأت من تيار حداثة أوتجديد أو تقدم، وإنما شقت طريقها الصعب والوعر من تيار تقليدي شديد المحافظة، وبدأ صراعها مع إخوانها في الحزب؛ فانتصرت للتجديد والاختلاف داخل حزبها الذي يحسب له الانتصار لها وللمرأة في حدود معينة، فانطلقت إلى المجتمع، وشجاعتها هنا أنها قد واجهت عتاولة القبيلة وجهابذة الجهل والتخلف الذين لا يتورعون عن قتل النفس، والطعن في الأعراض، والاعتداء على الكرامة.

 

ربما أدرك العالم مؤخرا أنه لا توجد دولة في اليمن، وإنما مجموعة تمتلك سلاحا ولا تتورع عن استخدامه متى تشاء وكيفما تريد وضد أي كان حتى لو كانوا مدنيين مسالمين!

 

وخاضت معركة ضد التيار السلفي في حزبها حول زواج القاصرات؛ فالمواجهة ضد نظام قروسطي متخلف وغشوم عكس المواجهة مع نظام متحضر ومتمدن، وهنا في الحقيقة أهمية الثورة اليمنية السلمية التي تنادي إليها العديد من ألوان الطيف السياسي والثقافي والمجتمعي، وكانت توكل واحدة من أهم العناوين في هذه الثورة.

 

منح جائزة نوبل لتوكل كرمان شاهد سلمية الثورة اليمنية، ومؤشر مهم للانتصار – انتصار اليمن وانتصار الربيع العربي وانتصار حق المرأة بالدرجة الأولى-، وهي رسالة لكل اليمنيين والربيع العربي للتمسك بسلمية الثورة والنأي بها عن العسكرة والمبندقين وتجار الفتن والحروب.

 

طبيعة الثورة الشبابية والشعبية ودور المناضلة توكل كرمان فيها دور المرأة العربية في هذا الربيع العربي الرائع هي أحد أهم أسباب منح الجائزة لتوكل، وهي في نفس الوقت رسالة عالمية للطغاة والمستبدين وللتيارات التقليدية التي تخلط الدين بقيم الجاهلية وبالأعراف والتقاليد القبلية والبدوية العتيقة أو بالأحرى تغلب الأعراف البدائية على القيم الإسلامية، وتطوع الإسلام لأعرافها وتقاليدها، والرسالة الرائعة التي أهدتها إلينا جميعا جائزة توكل أن رياح العصر قد هبت على اليمن، وإنه ليستحيل عزل اليمن عن دائرة الضوء العالمية التي اتسعت بفضل الثورة الثالثة لتعم الأكوان بأسرها؛ فهنيئا لتوكل كرمان نيل أكبر جائزة عالمية والمهمة الرائسة الملقاة على مكون توكل كرمان في الثورة الشبابية الابتعاد كلية عن تيار التحزيب المغلق والضيق، والنزول الميداني إلى كل الساحات، والعمل على توحيد شباب الساحات؛ فالخلاص من صالح بات وشيكا، ولكن صالح حريص ألا يترك اليمن إلا جثة هامدة.

 

المخاطر التي زرعها صالح ليست بالهينة، وستواجه الثورة تحديات كبيرة لعل أخطرها تركة صالح نفسه، ومسئولية قيادات الشباب في الساحات أن يتنادوا لتوحيد صفوفهم، وخلق قيادة تضم ألوان الطيف السياسي والفكري والاجتماعي ومن مختلف المناطق والاتجاهات؛ لإعادة البناء المدني العصري والحديث بعيدا عن تفرد وهيمنة القيادات التقليدية والمحافظة والتي تصر على حكم المستقبل بصيغ الماضي، والمقامرة الأبدية على الفتن والحروب الأداة الوحيدة للوصول للسلطة، والاحتفاظ بها، والوسيلة الوحيدة للثراء .

 

نتفق ونختلف مع توكل، وهو حق لنا، كما هو حق لها، ولكننا نرى اليوم أن وجود قيادة متوافقة منسقة ومتألفة حول أهم قضايا إعادة بناء الوطن، وطبيعة الدولة المدنية القادمة ودستورها وقوانينها الأساس: قانون الأسرة، والانتخابات، والسلطة القضائية، والجرائم والعقوبات، وعدم إيجاد تشريع للصحافة والأحزاب والنقابات والجمعيات والاكتفاء بالإبلاغ عن التأسيس، والالتزام بالدستور والقانون العام، وإيجاد قانون لحق الحصول على المعلومات، وإلغاء الدستور المفترى عليه، وكل القوانين العقابية والجائرة وما أكثرها .

 

قبل أعوام قرأت رواية المناضلة شيرين عبادي وشيرين المناضلة الإيرانية في الرواية تحلي قصتها قصة المرأة والحقوق والحريات في نظام الآيات الشيطانية وأحسست حينها الفارق الكبير بين معاناة المرأة الإيرانية والمرأة العربية في اليمن فمعاناة المناضلة الإيرانية تقف عند تخوم الحريات والحقوق أما توكل وأخواتها فيناضلن من أجل الحياة بالدرجة الأولى ثم في سبيل الحقوق الأخرى المدنية في المرتبة الثانية .

الحجر الصحفي في زمن الحوثي