اليمن بين الحرب بالوكالة والتسويات الكبرى: أي مستقبل ينتظره؟  

عبدالباري علاو
الاثنين ، ١٧ مارس ٢٠٢٥ الساعة ١٠:٠٧ مساءً

على وقع الضربات الجوية الأمريكية والاضطرابات السياسية، يقف اليمن عند مفترق طرق، تتجاذبه قوى إقليمية ودولية، كل منها يسعى لإعادة تشكيله وفق مصالحه. وبينما يراقب العالم المشهد كأنه معادلة جيوسياسية باردة، يظل الواقع الإنساني أكثر قسوة وتعقيدًا مما تلتقطه عدسات الأخبار. فإلى أين يتجه اليمن؟ وما السيناريوهات الأكثر ترجيحًا لمستقبله؟  

 

.

 

اليمن.. ساحة صراع معقّدة

 

تُعدّ الأزمة اليمنية واحدة من أكثر النزاعات تعقيدًا في المنطقة، ليس فقط بسبب تشابك المصالح المحلية، بل لأن اليمن أصبح ساحة مفتوحة لحرب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية. فمنذ التدخل الإيراني الأخير في الشأن اليمني عبر دعم جماعة الحوثي، التي انقلبت على الدولة اليمنية وسيطرت على صنعاء في سبتمبر 2014. جاء هذا الدعم ضمن استراتيجية طهران الإقليمية لتوسيع نفوذها في المنطقة، حيث رأت في الحوثيين ورقة ضغط جديدة تضاف إلى أدواتها في الشرق الأوسط، تمامًا كما فعلت في العراق وسوريا ولبنان.

 

في مواجهة هذا التمدد الإيراني، تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية في مارس 2015 دعمًا للحكومة الشرعية، في محاولة لإعادة التوازن إلى اليمن ومنع تحوله إلى بؤرة نفوذ إيرانية تهدد أمن الخليج. غير أن الحرب التي كان يُفترض أن تكون عملية خاطفة لاستعادة الشرعية تحولت إلى صراع طويل الأمد، خرج تدريجيًا عن السيطرة مع دخول لاعبين دوليين وإقليميين جدد إلى المشهد، كلٌّ بأجنداته الخاصة.

 

ومع مرور السنوات، لم يعد الصراع في اليمن مجرد مواجهة بين الحكومة الشرعية والحوثيين، بل أصبح ساحة مفتوحة تتداخل فيها المصالح الدولية، بدءًا من واشنطن وطهران، مرورًا بالرياض وأبوظبي، وانتهاءً بقوى أخرى مثل إسرائيل وتركيا، وكل طرف يسعى لإعادة تشكيل خريطة النفوذ في اليمن وفق مصالحه الخاصة.

 

في ظل هذا الواقع، أصبح من الصعب الحديث عن حل نهائي، حيث تتشابك المصالح الدولية مع الحسابات الداخلية، مما يجعل مستقبل اليمن رهنًا بالتوازنات الإقليمية والدولية أكثر من كونه قرارًا محليًا بيد اليمنيين أنفسهم.

 

عند الحديث عن مستقبل اليمن، فإن أي تحليل واقعي لا يمكن أن يستند فقط إلى الحلول المطروحة، بل يجب أن يأخذ في الاعتبار السيناريوهات المحتملة بناءً على الديناميكيات الحالية للصراع. فاستمرار الحرب، أو تحجيم الحوثيين، أو حتى صفقات خلف الكواليس بين القوى الكبرى، كلها احتمالات قائمة، ولكل منها تداعياته على مستقبل البلاد.

 

وفي ضوء ذلك، نستعرض فيما يلي أبرز السيناريوهات التي قد تحدد ملامح المشهد اليمني خلال السنوات القادمة.

 

.

 

أولًا: الحرب بالوكالة واستمرار الاستنزاف  

 

أحد أكثر السيناريوهات ترجيحًا هو استمرار الحرب في شكلها الحالي: استنزافٌ متبادل دون حلول جذرية. فبينما تشن الولايات المتحدة وحلفاؤها هجمات على مواقع الحوثيين ردًا على استهداف السفن في البحر الأحمر، لا يبدو أن هذه العمليات العسكرية تهدف إلى إنهاء نفوذ الحوثيين، بقدر ما تسعى إلى ضبط سلوكهم وإعادتهم إلى الحدود المرسومة لهم مسبقًا.  

 

في هذا السيناريو، يظل الحوثيون لاعبًا رئيسيًا في المشهد اليمني، لكنهم يفقدون جزءًا من حرية المناورة التي تمتعوا بها خلال السنوات الأخيرة. كما أن الحرب المستمرة توفر غطاءً مناسبًا للقوى الإقليمية والدولية لإبقاء اليمن في حالة من الفوضى، مما يسهل توظيفه كورقة ضغط في ملفات أخرى، مثل الملف النووي الإيراني أو النفوذ التركي في المنطقة، أو حتى الأطماع الإقليمية في السيطرة على بعض الأراضي اليمنية.  

 

.

 

ثانيًا: إعادة الحوثيين إلى "الخط المرسوم"  

 

يتقاطع هذا السيناريو مع سابقه، لكنه يذهب إلى أبعد من مجرد استمرار الحرب. فبدلًا من ترك الحوثيين دون قيود، تعمل الولايات المتحدة على تحجيم نفوذهم، ليس للقضاء عليهم، بل لإعادتهم إلى الدور الوظيفي الذي كانوا يلعبونه سابقًا. بمعنى آخر، لا تريد واشنطن انهيار الجماعة، لكنها في الوقت نفسه لا ترغب في تركها خارج السيطرة.  

 

هنا، يتمثل الهدف الأمريكي في ضبط التوازن بين الحوثيين من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى، بحيث يظل الحوثيون أداة ابتزاز إقليمي دون أن يتحولوا إلى قوة مستقلة يمكنها تهديد المصالح الأمريكية والغربية بشكل مباشر.  

 

في هذا السيناريو، قد نشهد اتفاقًا غير معلن بين واشنطن وطهران، بحيث يتوقف الحوثيون عن التصعيد في البحر الأحمر، مقابل تخفيف الضغوط الأمريكية على إيران في ملفات أخرى.  

 

.

 

ثالثًا: صفقة أمريكية-إيرانية على حساب اليمن  

 

التاريخ السياسي للمنطقة يعجُّ بالأمثلة التي تؤكد أن الأزمات المحلية غالبًا ما تُحل ضمن صفقات كبرى بين القوى العظمى. ومن غير المستبعد أن يكون اليمن هذه المرة إحدى الأوراق التي يتم التفاوض حولها بين واشنطن وطهران.  

 

في هذا السيناريو، تصبح الضربات الأمريكية مجرد وسيلة ضغط لإجبار إيران على التفاوض، وليس لإنهاء الحوثيين. وقد يؤدي أي اتفاق أمريكي-إيراني إلى إعادة رسم خريطة التحالفات في اليمن، سواء من خلال تقليص نفوذ الحوثيين، أو -على العكس- منحه شرعية دولية ضمن تسوية شاملة تشمل ملفات أخرى مثل الاتفاق النووي والعلاقات الإيرانية الخليجية.  

 

الخطير في هذا السيناريو أن مصير اليمن لن يكون بيد اليمنيين، بل سيتقرر في عواصم القوى الكبرى، كما حدث في اتفاقيات سابقة مثل سايكس بيكو ووعد بلفور، لكن هذه المرة بصيغة حديثة تتناسب مع موازين القوى الجديدة في المنطقة.  

 

.

 

رابعًا: تفكك اليمن وانقسامه النهائي  

 

مع استمرار الحرب واستعصاء الحلول السياسية، يصبح تفكك اليمن أكثر من مجرد احتمال نظري. فالنزعات الانفصالية في الجنوب تزداد قوة، والحكومة الشرعية تعاني من ضعف واضح، فيما الحوثيون يفرضون أمرًا واقعًا في الشمال.  

 

في ظل هذه المعطيات، قد يتحول الانقسام إلى حقيقة نهائية، بحيث يصبح اليمن دولتين أو أكثر: إحداهما خاضعة للحوثيين في الشمال، وأخرى في الجنوب مدعومة من التحالف، وربما كيانات أصغر في مناطق أخرى.  

 

هذا السيناريو، رغم كارثيته، يتماشى مع الرؤية الأمريكية الأوسع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بحيث تتحول الدول العربية إلى كيانات أصغر متناحرة، يسهل التحكم فيها ولا تشكل تهديدًا للمصالح الغربية أو الإسرائيلية.  

 

.

 

خامسًا: حل سياسي شامل (السيناريو الأقل احتمالًا)  

 

رغم أنه السيناريو الأكثر منطقية من الناحية الإنسانية، إلا أن الحل السياسي الشامل يبدو مستبعدًا في ظل غياب الإرادة الدولية الحقيقية. فأطراف الصراع جميعها تستفيد من استمرار الأزمة، سواء الحوثيون الذين يكرسون نفوذهم بالقوة، أو القوى الإقليمية التي تستخدم اليمن ساحة لتصفية الحسابات، أو القوى الكبرى التي ترى في استمرار الفوضى فرصة لترسيخ سياساتها.  

 

لكي يتحقق هذا السيناريو، يجب أن تتغير المعادلات على الأرض، سواء من خلال إرادة يمنية جامعة تفرض نفسها، أو تغيرات إقليمية ودولية تدفع نحو إنهاء الحرب. لكن حتى ذلك الحين، سيظل الحل السياسي الشامل مجرد أمل بعيد المنال.  

.

.

 

أي مصير ينتظر اليمن؟ 

 

في ظل هذه السيناريوهات، يبدو مستقبل اليمن مرهونًا بالتوازنات الإقليمية والدولية أكثر من كونه قرارًا داخليًا. فالحرب لن تتوقف قريبًا، والتسويات إن حدثت فلن تكون عادلة، والانقسام يظل خطرًا قائمًا.  

 

ما يحتاجه اليمنيون اليوم ليس مجرد وقف لإطلاق النار، بل استعادة القرار الوطني بعيدًا عن حسابات القوى الكبرى. لكن في عالم تحكمه المصالح، تظل هذه الرغبة، رغم عدالتها، خارج حسابات الفاعلين على الأرض.  

 

ليبقى السؤال معلقًا: متى يتوقف النزيف؟ ومن سيكتب الفصل الأخير في هذه المأساة؟

 

 

✍️ عبدالباري علاو

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي