‏الشهيد مصطفى كامل.. ثلاث صور وثلاثة أسماء

مصطفى غليس
الأحد ، ١٠ نوفمبر ٢٠٢٤ الساعة ٠٦:٢٥ مساءً

 

ناديته ذات يوم يا عم مصطفى، فرد علي بابتسامته العريضة كما هي عادته "والله إنها ثقيلة عليا يا عم مصطفى، قولي يا ابني مصطفى" فقلت له "ما ينفعش مصطفى ابن مصطفى، لو هي صالح ابن صالح تمشي" وضحكنا سويًا.

 

أتحدث عن مصطفى كامل الخوداني، الذي حلت علينا اليوم الذكرى السادسة لاستشهاده في مدينة الحديدة بالساحل الغربي وهو يقارع مع رفاقه من قوات المقاومة الوطنية مليشيا الحوثي، من أجل تحرير الوطن من طغيان تلك المليشيا الباغية.

 

كان آخر عهدي به في أحد متنزهات الرياض في جلسة عائلية. طلبت منه أن يذهب لشراء ماء، فعاد محملا بأكثر من كيس مملوءة بالمياه والشوكلاته وأنواع كثيرة من الحلوى لأطفالي وإخوانه الصغار.

 

بعدها بيومين، حمل والده العزيز كامل الخوداني ‎عصا الترحال مغادرًا العاصمة السعودية الرياض مع عائلته إلى اليمن، ليشارك مع ولديه حسين ومصطفى، والعشرات من أسرته وأبناء منطقته الذين حشدهم في معركة تحرير الساحل الغربي، تاركًا وراءه حياة رغيدة كان يحظى بها وعائلته.

 

بعد أسابيع من وصوله وعائلته، إلى اليمن بدأت المعركة، التي آمن كامل -وما يزال يؤمن- أنها السبيل الوحيد لاستعادة الدولة ومؤسساتها وتحرير البلاد ورقاب العباد من طغيان الحوثي وعنصريته المقيتة. وهو مبدأ تشربه الأب والأبناء، ومن قبلهم جدهم، من المبادئ والأهداف السامية لثورة 26 سبتمبر المجيدة.

 

كانت تحصينات الحوثي تتهاوى بسرعة كبيرة تحت أقدام حراس الجمهورية المهاجمين الذين كانت بوصلتهم نحو الحديدة، ليس لسهولة في المعركة أو لضعف في قوات العدو، بل لجسارة قوات حراس الجمهورية وأبطال العمالقة وأسود تمامة التي كانت تروي كل متر من الأراضي التي تحررها بدماء جنودها الزكية.

 

اتسعت مساحة الأراضي المحررة على امتداد الساحل الغربي، ووصل المحررون الذين كان مصطفى كامل من طلائعهم إلى أبواب مدينة الحديدة. حرورا أول شوارعها، وانتقلوا للتالي فالتالي، وبدأت عملية حصار الميناء لتحريره من قبضة المليشيات الباغية. كانت التضحيات عظيمة، وبالقدر ذاته كانت نشوة الانتصار وفرحة تحرير الأرض والإنسان.

 

بعيدًا عن أرض المعركة، وفي استكهولم الأوروبية، كان المجتمع الدولي، يبحث عن وسيلة لإيقاف معركة تحرير الحديدة تحت دعاوى أثبتت الأيام عدم صوابيتها. كان الأمريكان والبريطانيون وغيرهم من القوى العالمية يضغطون بشدة على وفد الحكومة الشرعية للتوقيع على بنود اتفاقية سلام حملت 

طوق النجاة للحوثيين.

 

وفي الوقت الذي كان فيه وفدا الحكومة الشرعية والحوثية يراجعان مسودة الاتفاقية كان مصطفى ورفاقه من الأبطال المكسوة وجوههم بغبار الأرض المسقية بعرقهم ودماء عروقهم يضعون الخطط للصولة الأخيرة من معركة تحرير الحديدة. ومن على بعد 4 كيلو مترات من الميناء التقط أحد المقاتلين صورة لمصطفى كامل وهو يحمل رشاشه الآلي.

 

كانت رافعات الميناء أمام عينيه، وكان يتطلع لالتقاط صورته التالية بجوار إحداها معلنًا تحرير أهم منفذ لتهريب الأسلحة الإيرانية إلى مليشيا الحوثي الارهابية. بعد التقاط الصورة عاود الأبطال الشجعان تقدمهم، وكالعادة كان ابن الكامل في طليعتهم.

 

كان الحوثيون قد تحصنوا بالمساجد والمدارس والمراكز الصحية وغيرها من الأعيان المدنية، وكان أشاوس حراس الجمهورية وأبطال العمالقة وأسود تهامة ماضين بثبات في طريق التحرير، والحرية، ومن حوش إحدى تلك الأعيان المدنية في شارع 22 مايو، انطلقت قذيفة هاون استهدفت مجموعة مصطفى كامل ورفاقه. كانت الإصابة قاتلة وعلى اثرها ارتقت روح مصطفى كامل إلى بارئها شهيدًا مجيدًا بعد سقي ورفاقه أرض آبائه وأجداده بدمائه الزكية.

 

بعد أيام من استشهاد مصطفى الكامل تم توقيع اتفاقية ستوكهولم، وبموجبها وتحت الضغط الدولي الشديد تم إيقاف معركة الحديدة ومينائها الذي كان على مرمى بندقية مصطفى الذي رحل فداءً لأرضه ووطنه، ودفاعًا عن كرامة الشعب وحريته وثورته ونظامه الجمهوري. رحل الجندي مصطفى الذي ذخر بندقه ووضع يده على الزناد لشهور دون أن يعلم أن ثمة يد سياسي ستوقع بعد أيام من استشهاده على اتفاق منح الحديدة للحوثيين وأعاد لهم مئات الكيلوهات التي تحررت.

 

ثمة ثلاث صور في مخيلتي لمصطفى، الأولى تحمل ابتسامته العريضه، والثانية وهو يلقي على مسامعي ووالده قصيدة وطنية بديعة، فقد كان شاعرًا فذًا، أما الثالثة فكان ثرى أرضنا الغالية يغطي جسده الصغير وهو يحمل سلاحه الذي استشهد ويده على زناده مقاتلا مقبلا غير مدبر.

 

دماء مصطفى ورفاقه الذين بذلوا أرواحهم رخيصة من أجل تحرير اليمن، وسطروا بطولات أسطورية في مختلف جبهات القتال في الحديدة ومأرب والجوف وصعدة والبيضاء وتعز وإب وقبلها في عدن وأبين ولحج والضالع، لن تذهب هدرا، فهي وقود نضالنا الوطني لتحرير كامل الأرض اليمنية من دنس المليشيا الحوثية.

 

بعد أربعة أعوام من استشهاد مصطفى، رزق شقيقه الأكبر حسين ابنًا أسماه مصطفى تكريمًا لشقيقه الشجاع وتخيلدًا لبطولاته. لقد أصبحنا الآن ثلاثة بنفس الاسم يا مصطفى لكنك أكثرنا تميزًا فقد كان لك من اسمك نصيب، ولم يكن اسمك إلا انعكاسًا لشخصك، نعم أنت المصطفى الكامل. وبمناسبة الاسم هل تعلم يا مصطفى أن معرفتي وصداقتي بوالدك الطود الشامخ والرجل الشهم النبيل كامل الخوداني سبقت ولادتك بأعوام، وما تزال عشرتنا ومحبتنا مستمرة بذات الصدق والوفاء حتى اليوم.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي