في قلب مدينة عدن، تلك اللؤلؤة الباهرة المطلة على بحر العرب، كانت الشمس تشرق كل يوم على أملٍ يائس بالحرية. ومع كل شروق وغروب، كانت ثورة تتشكل في النفوس، حتى جاءت اللحظة التي سطّرت تاريخ جنوب اليمن بدماء أبنائه. في 14 أكتوبر 1963، اندلعت الشرارة التي لن تخمد، ثورة جمعت شعبًا تحت راية واحدة، راية التحرر من الاستعمار البريطاني، وكتبت قصة لا تنسى في ذاكرة أبناء جنوب اليمن.
عدن تحت وطأة المستعمر
منذ عام 1839، حين استقر البريطانيون في عدن، تحولت المدينة إلى محطة لهم، ينهبون خيراتها ويضعون أيديهم على ثرواتها. شعبها كان مغلوبًا على أمره، تفتك به قسوة الفقر والاضطهاد، بينما المستعمر يحيا في أبراج من ذهب. لكن في زوايا المدينة، كان الأمل يغلي، ويتحول إلى نار تحت الرماد تنتظر فقط من ينفخ فيها.
بدايات الثورة: صوت لا يُكتم
في الأزقة الضيقة والمنازل المتواضعة، بدأ الشباب يتحدثون في سرية. كانوا يجتمعون ليلاً في ضوء المصابيح الخافتة، ويتبادلون الأحلام عن وطن حر. لم يكن الأمر مجرد رغبة، بل كان قرارًا. حركات وطنية بدأت بالظهور، تتحد على كلمة واحدة: لا بد للظلم أن ينتهي. ومع كل اجتماع، كان الأمل يكبر ويتعاظم في قلوبهم، متوحدين بهدفهم الأسمى: إنهاء الاستعمار.
التنافس الثوري: الحلم المشترك والتباين
في ساحة النضال، برزت قوتان: جبهة التحرير والجبهة القومية. جبهة التحرير كانت تحمل في أحشائها شعبًا كاملًا، يستمد منها عزيمته. في المقابل، كانت الجبهة القومية تستفيد من الدعم الخارجي الذي جعلها أكثر قوة على الساحة. ومع هذا التباين، كان الهدف واحدًا: إخراج المستعمر. كلا الجبهتين كانتا تحملان حلم أبناء جنوب اليمن، وإن اختلفت طرقهما.
السلاطين بين الولاء والتردد
في هذا المشهد الملتهب، كان موقف السلاطين متباينًا. بعضهم تردد بين الولاء للمستعمر أو الانضمام لشعبه. كان السلطان محسن الواحدي من بين القادة الذين انضموا لجبهة التحرير، ليكون صوته ضمن تلك الجوقة الثورية التي تطالب بالحرية. أما شقيقه صالح الواحدي، فقد اتجه إلى الشمال، حيث التقى مرارًا بالمندوب المصري في تعز، حاملًا على عاتقه تنسيق الجهود بين شمال اليمن وجنوبه لدعم الثورة. وكما يروي أحمد المجعلي في كتابه “حقائق تاريخية”, كانت هذه اللقاءات علامة فارقة في دعم الشمال لثوار الجنوب، لكنها لم تكن كافية لملء الفراغ السياسي الذي تركه تردد بعض السلاطين.
دعم الشمال: عندما توحدت القلوب من جديد
لم يكن جنوب اليمن وحده من يقاتل في تلك المعركة، بل كان الشمال عونًا حقيقيًا له. ففي الشمال، أدركت القوى السياسية أن تحرير جنوب اليمن من الاستعمار البريطاني هو قضية مشتركة. وكان الدعم يتدفق من الشمال إلى الجنوب، مدفوعًا بروح الوطنية والتآزر. مراجع تاريخية عديدة توثق هذا الدعم، منها:
1. “الحركة الوطنية اليمنية: من الكفاح ضد الاستعمار إلى الوحدة” لعزيز بن حبتور، الذي يوثق دور الشمال في دعم الجنوب.
2. “جبهة التحرير الوطنية” لسعيد الهمداني، حيث يسلط الضوء على الجهود المتكاملة بين شمال اليمن وجنوبه لتحقيق الأهداف الوطنية.
3. “اليمن: الصراع من أجل الاستقلال” لمحمد عبد الله القاسمي، الذي يكشف عمق العلاقة بين ثوار الشمال والجنوب، وكيف أدى هذا التعاون إلى تعزيز جبهة المقاومة.
الشرارة التي أشعلت الحريق
وفي يوم مشرق من أيام أكتوبر 1963، انفجرت ثورة عدن. لم يعد في الإمكان كتمان غضب الشعب أكثر. في كل ركن من أركان المدينة، ترفرف الأعلام، وتصدح الحناجر بشعارات الحرية. كان الجو مشحونًا بالأمل والحماسة، وكأن المدينة بأكملها نفضت عنها غبار الاستعمار، لتخرج بأجمل حلة لها في ذلك اليوم. الثورة كانت قد بدأت، ولن تتوقف حتى يرحل المستعمر.
الانتصار: لحظة الخلاص
مع استمرار الكفاح لأربع سنوات، وصل الثوار إلى لحظة الحلم الذي طال انتظاره. في عام 1967، انسحبت القوات البريطانية، وسقطت قلاع الاستعمار تحت أقدام أبناء جنوب اليمن. لقد كانت لحظة النصر أكبر من أن تُوصف. الشوارع اكتظت بالفرح، وعلت أصوات الاحتفالات في كل زاوية. لقد عاد الوطن لأبنائه، وبدأت عدن تستعيد روحها بعد سنوات من الألم.
الإرث الذي لا يموت
ثورة 14 أكتوبر لم تكن مجرد حدث عابر في التاريخ، بل هي قصة كفاح شعب جنوب اليمن الذي لا يقهر. إنها رسالة للأجيال القادمة بأن الحرية لا تُوهب، بل تُنتزع بتضحيات عظيمة. وكما أشار أحمد المجعلي في “حقائق تاريخية”, فإن هذه الثورة لم تكن مجرد لحظة تاريخية، بل هي نبض أمل لا ينقطع. إنها قصة شعب تحدى الصعاب ليبني وطنًا لا يُخضعه أحد، وطنًا تسوده العدالة والسلام.
أهداف ثورة 14 أكتوبر
لقد كانت لثورة 14 أكتوبر 1963 في جنوب اليمن أهدافٌ سامية ورؤى واضحة، تمثلت في:
1. التحرر من الاستعمار البريطاني: إنهاء الوجود البريطاني الذي بدأ منذ عام 1839 في عدن.
2. تحقيق الاستقلال الوطني: إقامة دولة مستقلة ذات سيادة في جنوب اليمن.
3. إنهاء الحكم السلاطيني: القضاء على الأنظمة السلاطينية المتعاونة مع المستعمر.
4. توحيد جنوب اليمن: جمع مختلف المناطق والسلطنات الجنوبية في كيان موحد.
5. تحقيق العدالة الاجتماعية: تحسين الأوضاع المعيشية للشعب الجنوبي ومحاربة الفقر والتهميش.
6. إقامة نظام سياسي وطني: تأسيس حكم يعبر عن إرادة الشعب ويضمن حقوقه.
7. تحقيق الوحدة اليمنية: كان من الأهداف الرئيسية توحيد شمال اليمن وجنوبه في كيان واحد، وهو ما تحقق لاحقًا في 22 مايو 1990.
8. الانضمام للحركة القومية العربية: تعزيز الروابط مع الحركات التحررية في العالم العربي والنضال ضد الاستعمار.
تحقيق هذه الأهداف شكّل الأساس لنضال شعب جنوب اليمن، وصولاً إلى الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، وما تلاه من تحقيق الوحدة اليمنية في 1990.
عيد ثورة مجيد
-->