في عالمٍ يعج بالضجيج ويختزل اللقاءات في بروتوكولات باردة، كنت أظن أن لقائي بوزير الخارجية الدكتور شائع الزنداني لن يكون أكثر من حديثٍ عابر، مجاملات متبادلة وأبواب تغلق سريعًا.
لكن ما أن جلست أمامه حتى تلاشت تلك التصورات، وتحوّل اللقاء إلى لحظات تشبه الإبحار في محيطٍ عميق، كل موجة تحمل معها درسًا جديدًا، وكل نظرة تنبض بحكمة مستترة.
كانت دقائقي معه أشبه بدورة مكثفة في الدبلوماسية الحقيقية، لا تلك التي تُدرّس في الكتب، بل تلك التي تُصنع في وجدان العظماء. في كلمات الزنداني، شعرت أن الدبلوماسية ليست مجرد لغةٍ للمحادثات، بل هي فنٌ رفيع يعيد تشكيل وجه الوطن.
كنت قد سمعت عنه كثيرًا من صديقي كمال الشيباني ، الذي لطالما أطلق العنان لخياله وهو يحدثني عن هذا الرجل الفريد، لكنني أدركت، وأنا أمام الوزير، أن كل تلك الأوصاف لم تكن سوى لمحة عابرة من شخصيةٍ تغوص في أعماق قضايا اليمن بحسٍ قيادي نادر.
هنا لا نقف أمام رجلٍ عادي، بل أمام قائد يعرف جيدًا كيف يُسيّر الدبلوماسية كأداةٍ لتوحيد الصفوف وتمهيد الطريق لحل الأزمات.
أدركت فجأة أن ما أصاب دبلوماسية اليمن من فشل، لم يكن سوى انعكاس لغياب قادةٍ مثل الزنداني عن المشهد، قادة لا يرون في مناصبهم مجرد واجبٍ بل مشروعًا وطنيًا لإنقاذ البلاد.
حدثني عن زيارته الأخيرة إلى نيويورك، عن قراره بعدم لقاء الجاليات اليمنية إلا بشرط أن تتوحد في جاليه واحدة تمثل كل اليمنيين، كأنما أراد أن يقول: لا نهوض لأمة دون وحدة، كان حديثه عن الوحدة بعمقٍ غير مألوف، كأن كلماته تشق دربًا جديدًا في قلب الفوضى.
ثم تطرقنا إلى اليمنيين في مصر، وقبل أن أطرح استفساراتي، سبقني بالوعد أن يحلّ مشكلاتهم، مؤكدًا أن القضية ليست محض مسألة إدارية، بل هي جزءٌ من التزامه الشخصي تجاه أبناء بلده في الخارج. في تلك اللحظات، أدركت أنني أمام رجل لا يعترف بالمستحيل.
لكن ما أدهشني حقًا كان حديثه عن المناطقية والشخصية العصبية التي مزقت اليمن شمالاً وجنوباً، لم يكن يصف آفةً أصابت الوطن فحسب، بل كان يبحث عن علاجٍ لها، يضع يده على الجرح ويبحث عن طريق الخلاص، لم أستطع إلا أن أتوقف عند كلماته وأتأمل كيف يمكن لرجل واحد أن يحمل رؤية بهذا الوضوح والعمق.
لقد رأيت في الدكتور شائع الزنداني رجلاً ينتمي إلى الحلم اليمني الكبير، حلم أن تنهض الدبلوماسية اليمنية مجددًا بأيدٍ صادقة وعقولٍ حكيمة، وأن ينهض اليمن من جديد.
في كل كلمة قالها، كان ينقش على جدران الأمل بصمته الخاصة، وكأننا نقترب من بداية جديدة لوطنٍ أنهكته العواصف لكنه لم يفقد رجاءه.
فائد دحان
-->