بجوار صديقي السوري..

صفوان سلطان
الجمعة ، ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ الساعة ١٢:٥٣ صباحاً

 

بعد يوم طويل من السير عبر طرق متعرجة ووعرة، وصلت أخيرًا إلى مقهى مزدحم بالزبائن. العرق يتصبب من جبيني بغزارة، وقفت أبحث عن طاولة وكرسي ألتقط عليهما أنفاسي. لم يكن هناك مكان متاح، فالمقاعد مشغولة بمن سبقوني في الوصول، إلا أن صاحب المقهى أشار إلى طاولة قد أشاركها مع أحد الجالسين.

 

توجهت إلى الطاولة، حيث جلس رجل يبدو من مظهره أنه شامي. ابتسمت له تحية وجلست بجانبه. طلبت الماء وبعض الطعام، وكان كل ما أريده هو لحظة هدوء وراحة بعد عناء الطريق الطويل. 

نظرت إلى وجه رفيقي، كانت ابتسامته توحي بالأمان، لكن عيناه قالتا الكثير عن معاناة أكبر من كلماته. ذلك الحزن الساكن في ملامحه، والثقل الواضح على قلبه، كان يروي قصة حياة مليئة بالألم.

 

بادرني قائلاً: "أنت يمني، أليس كذلك؟" تفاجأت من دقته في تحديد هويتي دون حديث. ربما كانت سمرتي السبب، رغم أنني أستطيع أن أبدو من عدة دول أخرى. أجبته: "نعم، أنا يمني."

 

ابتسم مرة أخرى وقال: "حمدًا لله على سلامتك." كأنّه يعرف تمامًا حجم ما مررت به من مشقة. شكرته بإيماءة خفيفة، ثم سألته: "وأنت؟ من أين أنت؟" تغيرت ملامحه فجأة، وسحب تنهيدة عميقة قبل أن يجيب: "أنا من سوريا... البلد الذي يعاني كما تعانون، ولكن وضعنا أسوأ." لم يستطع حبس دموعه التي بدأت في التساقط، كأنما تذكر كل شيء في لحظة واحدة. قال: "بلدنا دُمرت على يد مليشيات إيرانية، وقادتنا قصفونا بالبراميل المتفجرة... لم يبقَ لنا شيء."

 

كنت أستمع لصوته المختنق بالدموع وأشعر بثقل الألم في كلماته. حاولت مواساته، وضعت يدي على كتفه وقلت بحزن: "بل أنت من يستحق أن نقول له حمدًا لله على سلامتك، يا صديقي."

 

توقفنا قليلاً، كل منا يغرق في أفكاره، محاولين جمع شتات أنفسنا. هو يحاول أن يكبت دموعه التي فضحته أمامي، وأنا أحاول أن ألتقط أنفاسي بعد رحلتي الطويلة. 

 

فجأة، ارتفع صوت التلفاز في المقهى. كانت نشرة الأخبار تعرض لقطات عن قصف إسرائيلي في لبنان. وجدت نفسي أسترق النظر إلى وجه صديقي السوري. رأيت دموعه قد جفت، وعيناه تلمعان بشيء من الفرح. لم أستطع كبح دهشتي، فسألته باستنكار: "هل أنت سعيد بقصف إسرائيل للبنان؟"

 

نظر إليّ بعينين ثقيلتين بالحزن وقال: "يا صديقي، لا تفهمني خطأ. لبنان بلد عربي، وأخاف عليه كما أخاف على سوريا. لكنك لا تعرف ماذا فعل بنا حزب الله. لقد ذاق الشعب السوري على أيديهم ما لم نذقه حتى من النظام. القمع، القتل، السحل... لقد كانوا اليد الباطشة للنظام، ذراع الظلم التي لم ترحم أحداً."

 

كانت كلماته تهزني من الداخل، تفتح جروحًا جديدة في ذاكرتي. كنت أعرف تمامًا ما يعنيه. ميليشيا حزب الله، التي تدرب ميليشيا الحوثي في اليمن، قد ساهمت في تدمير حياتنا نحن أيضاً. لقد عشنا الدمار والنزوح، تماماً كما عاشه الشعب السوري. ومع ذلك، لم أستطع أن أمنع نفسي من القول: "لكن هؤلاء الإسرائيليين قتلوا الفلسطينيين وارتكبوا المجازر فيهم. القضية الفلسطينية هي قضيتنا جميعًا، كيف يمكن أن نفرح بما يفعلونه؟"

 

شعرت بصراع داخلي يعصف بي. كيف يمكنني أن أكره ميليشيات حزب الله التي قتلت شعبي وشردتنا من ديارنا، وفي الوقت نفسه أرفض أن أفرح بعمل عدو تاريخي؟ 

 

قاطع صديقي السوري أفكاري بصوت حزين: "من يقتلني ويظلم شعبي، لن يكون مدافعاً عن القضية الفلسطينية. حزب الله لم يكن يوماً مقاوماً للظلم. لقد كانوا جزءاً من الظلم نفسه.

"القضية الفلسطينية في قلوبنا جميعاً، لكنها لا تبرر أن ندافع عن من يقتلنا ويمزق أوطاننا باسم المقاومة. حزب الله لم يحرر فلسطين، بل دمر سوريا، وقبله فعلوا نفس الشيء في لبنان. نحن الشعوب العربية نزف في صمت، نعيش بين المطرقة والسندان، حيث تستغلنا هذه الميليشيات بحجة الدفاع عن قضايا نبيلة، وهي في الواقع تدمر كل ما هو نبيل في حياتنا."

 

كانت كلماته كالسكاكين التي تمزق كل قناع حاولت أن أرتديه، تحركت داخلي مشاعر مختلطة بين الغضب والحزن. نعم، فلسطين قضيتنا، لكن في نفس الوقت، كان صديقي محقاً. كيف يمكنني أن أغمض عيني عن حقيقة أن أولئك الذين يزعمون الدفاع عن فلسطين هم أنفسهم من يدمرون بلادنا ويشردون أهلنا؟

 

بينما كنت غارقًا في التفكير، استمر صديقي في الحديث. قال: "لقد عشنا في سوريا ما لا يمكن أن تتخيله. البراميل المتفجرة التي أسقطها النظام الإيراني والروس، القتل العشوائي في الشوارع، الاختفاء القسري، والاغتصاب الذي تمارسه الميليشيات الإيرانية علينا كأداة لإذلالنا. ليس هذا فقط، بل حزب الله كان أكثر قسوة. لقد كانوا الشياطين التي تفعل كل ما هو قبيح نيابة عن النظام."

 

صوت التلفاز عاد يقطع حديثنا. كانت الأخبار تعرض مقاطع عن اغتيال علي حسن سرور، قائد ميداني في حزب الله، والذي قالت التقارير إنه كان مسؤولاً عن تدريب ميليشيا الحوثي في اليمن. نظرت إليه مرة أخرى، وأدركت أن جراحه هي جراحي، وإن كانت بلداننا مختلفة، فالمعاناة واحدة. 

 

قلت له: "نحن في اليمن نعيش نفس الكابوس. الحوثيون الذين تدعمهم إيران وحزب الله دمروا بلادي. لقد هجروا الآلاف، قتلوا الأبرياء، واحتلوا المدن. أنا هنا، بعيد عن وطني، لأنهم حولوا حياتنا إلى جحيم. كيف يمكنني أن أتعاطف مع من يدعم هؤلاء المجرمين؟ كيف يمكنني أن أنسى أن نفس اليد التي امتدت لتدمر سوريا قد امتدت لتدمر اليمن؟"

 

كان الحديث صعبًا، كأننا نتقاسم الألم، كأنما نروي قصصًا كتبها نفس القدر الأسود. ابتسم صديقي السوري ابتسامة حزينة وقال: "ما يحدث في اليمن وسوريا هو جزء من مخطط أكبر، يا صديقي. إنها ليست حربًا بين شعوب، بل صراع قوى تستخدم فيه أوطاننا بيادق لتحقيق مصالحها. إيران تستخدم ميليشياتها لتدميرنا وتفتيت أوطاننا. نحن مجرد ضحايا في لعبة لا نهاية لها."

 

لم أجد الكلمات لأرد عليه. كل ما كنت أستطيع فعله هو أن أومئ برأسي، مؤكدًا على ما قاله. شعرنا وكأننا لسنا سوى قطرتين من نفس النهر الجارف، نهرب من الدمار، من الحروب، ومن المآسي التي باتت تحيط بنا أينما ذهبنا.

 

أنهينا جلستنا بسلام صامت. كل منا عاد إلى شرابه، وكل منا غارق في أفكاره. كان اللقاء مع صديقي السوري بمثابة مرآة تعكس لي ما كنا نحاول نسيانه أو تجاهله. غادرنا المقهى وكل منا يحمل في قلبه ثقلًا أكبر من الذي دخل به. تركته وودعته، لكن كلماته بقيت محفورة في ذاكرتي.

 

وأنا أغادر المقهى، شعرت أن هذه الجلسة القصيرة كانت درسًا مؤلمًا في واقعنا العربي. فهمت أن القضية الفلسطينية ليست غطاءً يمكن أن يبرر الظلم والقمع في أوطاننا. لقد أدركت أن الأعداء الحقيقيين هم أولئك الذين يستخدمون شعارات براقة بينما يقتلون شعوبهم ويهدمون بيوتهم. في تلك اللحظة، شعرت أن رحلتي نحو تحرير وطني بدأت للتو، ولكن بروح أقوى ووعي أكبر.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي