محكمة... (الجلسة الرابعة)

صفوان سلطان
الاثنين ، ٢٣ سبتمبر ٢٠٢٤ الساعة ١٠:١٥ مساءً

 

في صباح بارد، تملأه رهبة اللحظة وتاريخها، ساد الصمت أرجاء قاعة محكمة التاريخ.

قاعة المحكمة كانت مكتظة بأرواح الشهداء الذين ضحوا بها دفاعاً عن الوطن والجمهورية، والذين اصطفوا في أعلى مقاعد القاعة كمكانة تليق بما قدموه. أمامهم كان يجلس الشعب اليمني المنهك، ذلك الشعب الذي سحقه الجوع والحرب، والذي كان اليوم شاهداً ومتأثراً بكل ما يحدث.

 المتهمون وُضعوا على جانبي القاعة، بعيدين عن بعضهم البعض، لمنع أي صدام محتمل بينهم. فالصراعات التي دارت بينهم في الماضي، تلك الصراعات التي أسقطت البلاد في يد الكهنوت الحوثي، كانت ما أدت إلى هذه اللحظة.

 

في الأمام، فتح باب التاريخ على مصراعيه، لتدخل أرواح مناضلي وشهداء ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر، وأبطال حصار السبعين، ليكتمل بذلك مشهد المحكمة العظيم.

 

 **"محكمة!"**

كان النداء قوياً، مختلطاً بنبرة من الحزن العميق على ما آلت إليه الأمور. أعلن النداء بداية الجلسة الرابعة، وهي جلسة ينتظر فيها الجميع لحظة الحقيقة، حيث سيسمعون دفاع المتهمين عن تهم التفريط بالجمهورية والوطن لصالح الحوثي، الكهنوت الجديد.

 

 "جلسة اليوم ستكون طويلة. نطلب من الجميع الصبر، فمن حق كل طرف أن يقدم دفوعه ويدافع عن نفسه"، بدأت المحكمة حديثها بنبرة هادئة لكنها صارمة،

 ثم أكملت: "سنبدأ من الجانب الأيمن... كيف استطاع الحوثيون، الإمامة الجديدة، السيطرة على الوطن؟"

 

نهض المتهمون في الجانب الأيمن من القاعة بخطى مثقلة بالخوف والندم. كان واضحاً أن هذه اللحظة بالنسبة لهم كانت بمثابة مواجهة مع مصيرهم. أحدهم تحدث بنبرة حزينة، لكنه حافظ على رباطة جأشه: "نعترف أمامكم، أمام شهداء الجمهورية والشعب المنهك، أننا سمحنا للحوثيين بالدخول إلى الساحة السياسية في 2011. كنا نعتقد أننا نبني تحالفاً وطنياً يشمل جميع الأطياف، لتوحيد الجهود في إسقاط النظام الحاكم آنذاك. كنا نظن أن مشاركة الحوثيين لن تشكل خطراً، وأنهم جماعة صغيرة ليس لديها القدرة على التوسع أو السيطرة." ساد صمت ثقيل في القاعة للحظات، ثم أكمل المتحدث: "شارك الحوثيون في مؤتمر الحوار الوطني، رغم تحالفاتهم الخفية مع أطراف أخرى. ورغم أنهم بدأوا يراوغون ويظهرون أطماعهم، لم نعرهم انتباهاً كافياً. كنا نظن أن موافقة الجميع على مخرجات الحوار الوطني ستكون كفيلة بحماية الجمهورية والدولة المدنية الحديثة. وعندما بدأ الحوثيون في حصار صنعاء، كنا نعتقد أنهم لن يتمكنوا من السيطرة عليها. لم نكن نتصور أنهم سيغزون العاصمة." هنا، صدرت تنهيدة عميقة من المتهمين، وكأنها تعبير عن ندمهم العميق: "لكنهم تمكنوا من السيطرة، وقررنا حينها عدم الدخول في مواجهة مسلحة داخل صنعاء لتجنب سقوط مزيد من الضحايا. ولكن، تمادى الحوثي وأرسل مليشياته الإرهابية لغزو بقية المحافظات. عندها وقفنا وساندنا أحرار الشعب اليمني في مقاومتهم، وقامت الحكومة الشرعية بالاستعانة بتحالف دعم الشرعية بقيادة أشقائنا في المملكة. استطعنا تحرير عدد من المحافظات، وما زلنا نقاوم حتى اليوم، ولن نقبل أن يحكم الحوثيون الجمهورية..."

تلا كلماتهم صمت رهيب، كان الصوت الوحيد الذي يُسمع هو أنين الشعب الجريح.

 

ثم انتقلت المحكمة بسؤالها إلى المتهمين في الجانب الأيسر من القاعة: "كيف تمكن الحوثي من السيطرة على الوطن؟"

 ارتفعت أنظار المتهمين في الجانب الأيسر، وهم يعرفون أن الإجابة ستكون ثقيلة عليهم.

 

 تحدث أحدهم بنبرة حزينة، لكن كلماتها كانت تفيض بالندم: "نعم، نعترف بالتحالف مع الحوثي. كان ذلك جزءاً من صراعنا السياسي. ظننا أننا نستطيع استخدامه كأداة للقضاء على خصومنا. لم نكن نتصور أن هذا الإرهابي سيتحول إلى تهديد وجودي للجمهورية و الوطن. عندما التحق الحوثي بمؤتمر الحوار الوطني، اعتبرناه مكوناً سياسياً كسائر المكونات. وبدأنا التنسيق معه. كنا نظن أننا قادرون على احتوائه، وأنه لا يملك من القوة ما يجعله خطراً."

 أخذ المتحدث نفساً عميقاً، وكأنه يحاول استرجاع لحظات مؤلمة من الذاكرة: "لكننا فوجئنا بتغوله في صفوف الجيش والقبائل. وعندما حان وقت المواجهة، كان الأوان قد فات. انتفضنا ضدهم في 2 ديسمبر 2017م، وحاولنا بكل ما نملك استعادة الجمهورية، لكن الحوثي كان قد رسّخ نفوذه. واستشهد منا الأعزاء والأبطال في تلك المواجهة، بينما اكتمل حصارهم علينا."

توقف المتحدث قليلاً، وكأن الزمن ذاته توقف مع كلماته، قبل أن يكمل: "أجبرنا على الانسحاب من صنعاء. لكننا لم نستسلم. أعدنا ترتيب صفوفنا، وطالبنا الأشقاء في تحالف دعم الشرعية بمساعدتنا. واليوم نقف هنا، في محاولة لاستعادة الجمهورية."

 

في تلك اللحظة، كان الشعب يكتم أنفاسه، والجميع كان يشعر بالثقل الذي يجثم على الصدور. قطع الصمت صوت المحكمة، بنبرة رصينة، لكنها مهيبة: "بعد الاستماع إلى دفوع المتهمين، وتقييم الشهادات والتهم، نرفع الجلسة إلى يوم الغد، حيث سيتم النطق بالحكم في تهمة التفريط بالجمهورية والوطن لصالح الكهنوت الحوثي وميليشياته الإرهابية." رفعت الجلسة…

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي