تمر اليمن بمنعطف حاسم يتطلب قرارات استثنائية واستنفارًا وطنيًا شاملًا، تُقدَّم فيه المصلحة العامة على المصالح الفئوية، وتُرفع فيه راية الدولة فوق كل الاعتبارات. وفي هذا السياق، حملت تصريحات رئيس الوزراء الجديد، الأستاذ سالم بن بريك، رؤية واضحة لإعادة ترتيب الأولويات الوطنية، يتصدرها مشروع استكمال التحرير واستعادة الدولة اليمنية وإنهاء الانقلاب، باعتباره القاعدة التي لا يقوم بدونها بناء سياسي أو اقتصادي أو أمني.
عودة الوعي بالمهمة الوطنية الكبرى
حديث رئيس الحكومة، في لقائه مع المجلس الأعلى للتكتل الوطني للأحزاب والمكونات السياسية، أعاد الاعتبار ليس فقط لقضية التحرير بوصفها المهمة المركزية للحكومة، بل أيضًا لأهمية تفعيل الحياة الحزبية التي أصابها الجمود. وإذا أضفنا إلى ذلك ما صرّح به في أول مقابلة صحفية له مع صحيفة عكاظ السعودية، سندرك أننا أمام شخصية تُدرك حجم التحديات ومفاتيح حلها، وتتمتع برؤية إصلاحية تتجاوز منطق التسيير إلى منطق الإنجاز.
تعيين في لحظة فارقة
تولي الأستاذ بن بريك رئاسة الحكومة لم يكن منصبًا شرفيًا، بل تكليفًا ثقيلًا جاء في وقت بالغ الدقة. وقد وصف الرجل المنصب بـ"أمانة أمام الله والوطن"، ما يعني إدراكه لجسامة المسؤولية، ومعرفته أن اليمن لم تعد تحتمل المزيد من الانتظار أو التردد. حكومته مطالبة بأن تتحول إلى خلية أزمة وطنية تُحسن الإدارة وتُسرّع الإنجاز، وتُؤسس لمرحلة انتقال من التشخيص إلى التنفيذ.
استكمال التحرير والسيادة... عنوان المرحلة القادمة
لأول مرة منذ سنوات، نسمع من رئيس حكومة يمني عبارة "استكمال تحرير اليمن من ميليشيا الحوثي" كشعار واضح لا لبس فيه. لقد تراجعت هذه الأولوية في أجندات الحكومات السابقة تحت ذرائع مثل "الهدنة" أو "انتظار حلول دولية"، بينما كان الحوثيون يتمددون، وينهبون الموارد، ويستهدفون الموانئ أثناء الهدنة، ويمنعون تصدير النفط، ويُحكمون قبضتهم على المجتمع، وينفذون أجندة إيرانية.
إعادة الاعتبار لهذا الهدف تعني أننا أمام عقل حكومي يرى الأمور كما هي، ويضع النقاط على الحروف، ويعيد توجيه البوصلة نحو المعركة المصيرية التي تحدد شكل اليمن القادم.
ويمكن، في هذا السياق، اقتراح استراتيجية إعلامية وطنية تواكب مشروع التحرير وتُوضح للمواطنين أهداف الحكومة وتُفند الدعاية الحوثية.
ترسيخ الدولة في العاصمة المؤقتة عدن
لن يكون لخطاب التحرير معنى ما لم يُترجم إلى نموذج حي للدولة في المناطق المحررة، وفي مقدمتها عدن. هذه الترجمة يجب أن تبدأ بإجراءات ملموسة، منها:
- رفع العلم الوطني في جميع المؤسسات والمعسكرات.
- توحيد الأجهزة الأمنية تحت مظلتي وزارتي الداخلية والدفاع.
- إنهاء التجاوزات في النقاط الأمنية والمعابر، واحترام كرامة المواطنين.
- جعل عدن نموذجًا فعليًا لدولة النظام والقانون والمواطنة المتساوية.
مقترحات لدفع عجلة التحرير
لكي تتحول الأقوال إلى أفعال، هناك خطوات يمكن الشروع بها فورًا، منها:
- دمج القوات النظامية والمقاومة تحت قيادة موحدة.
- انتظام دفع رواتب الموظفين والعسكريين والمقاومة في الجبهات.
- تخصيص موازنات لتحريك الجبهات وتنشيط خطوط التماس.
- تزويد الجيش بالسلاح النوعي، وطلب غطاء جوي من التحالف عند الحاجة.
- تقديم خدمات فعالة في المناطق المحررة لرفع معنويات السكان.
- تشكيل لجنة طوارئ برئاسة مجلس القيادة لمتابعة ملفات التحرير والخدمات، تضم رئيس الحكومة والوزراء المختصين وأميني صنعاء وعدن.
الاقتصاد والخدمات... العمق الاستراتيجي للتحرير
لا يمكن خوض معركة التحرير بسلاح الجبهات فقط، بل لا بد من رافعة اقتصادية وخدمية تُساند هذا التوجه. فالوضع المعيشي الصعب يُقوض ثقة المواطنين بالحكومة، ويمنح الحوثي فرصة الاستغلال والدعاية. ولهذا، يجب أن يشمل البرنامج الحكومي:
- تنشيط الاقتصاد، وخلق فرص العمل في القطاعات الإنتاجية.
- شراكة جادة مع القطاع الخاص، وتوفير بيئة مشجعة للاستثمار.
- استئناف تصدير النفط والغاز، وتأمين منشآته.
- توحيد الموارد العامة من جمارك وضرائب.
- إصلاح الجهاز الإداري وتنقية كشوف الرواتب من الأسماء الوهمية.
- تحسين خدمات الكهرباء والمياه والتعليم والصحة.
- كما أن دعم جهود المغتربين أثبت نجاعة في التنمية المحلية بمبادرات رائدة. ويجب أن يكون ذلك أولوية، كأن تتبنى الدولة تمويل 50% من أي مشروع مجتمعي ينفذه المغتربون والفعاليات المجتمعية المحلية في مناطقهم.
الدعم الخارجي ضرورة لا مفر منها
اعترف رئيس الوزراء، في مقابلته مع صحيفة عكاظ، بالدور الكبير للمملكة العربية السعودية، مشيرًا إلى أنها قدمت أكثر من 5 مليارات دولار لدعم الحكومة، منها 1.2 مليار مؤخرًا لتغطية عجز الموازنة. وهو دعم يجب أن يُقدّر، ويُبنى عليه، عبر حشد دعم خليجي وعربي أوسع لضمان استقرار الحكومة واستمرارها في تنفيذ أولوياتها.
لقد أثبتت تجارب أخرى، كالتجربة السورية، أن بقاء الحكومة مرهون بالدعم المالي المباشر، خاصة في ملف الرواتب والخدمات الأساسية؛ فقد تعهّدت دولة قطر، على سبيل المثال، بدفع رواتب الموظفين السوريين شهريًا. وحكومتنا الحالية تحتاج إلى الأمر ذاته حتى تبقى على قدميها وتتمكن من تحقيق أولوياتها المعلنة.
كلمة أخيرة: المسؤولية تكليف لا تشريف
اليمن اليوم عند مفترق طرق حاسم. إما أن نغتنم هذه الفرصة التاريخية لاستعادة الدولة، أو نفوّت اللحظة ونسلم الوطن للفوضى والتقسيم. ولا سبيل للنجاح إلا بالتكاتف ودعم الحكومة الجديدة، التي أعلنت انفتاحها على الجميع، دون إقصاء أو تمييز.
الكرة اليوم في ملعب الجميع: القيادة، والأحزاب، والنخب، والمواطنين، وكذلك التحالف العربي والداعمين للشرعية. فلنجعل من عام 2025 عامًا للحسم، والتحرير، والبناء، لا عامًا آخر من الانتظار والخيبات. هذا ما أعلنه رئيس مجلس القيادة الرئاسي، وتبناه رئيس الوزراء، فهل سيكون الجميع على قدر اللحظة؟!
-->