خواطر رمضانية (17) – تدبر في فعل الأمر "قُل" في القرآن الكريم ودلالاته في الرسالة المحمدية
القرآن الكريم مليء بالأوامر والتوجيهات التي تبيّن للمؤمنين منهج الحياة الصحيح، ومن بين هذه التوجيهات جاء فعل الأمر "قُل" موجّهًا إلى النبي محمد ﷺ ليكون أداة بلاغية ووحيًا إلهيًا يبلّغ من خلاله الحقائق العقدية والتشريعية والأخلاقية.
وقد ورد هذا الفعل 332 مرة في القرآن الكريم، مما يعكس دوره الجوهري في إيصال الرسالة الإلهية بوضوح لا لبس فيه.
إن تدبر هذه الصيغة يأخذنا في رحلة تأملية حول مركزية الوحي في الرسالة المحمدية، ودور النبي ﷺ في نقل التعاليم الربانية إلى البشرية، مع التركيز على مجالات العقيدة، والتشريع، والحوار، والتربية الأخلاقية.
أولًا: "قُل" في سياق التوحيد والعقيدة
(كما ورد في النص الأصلي، مع آيات إثبات التوحيد وإبطال الشرك والرد على المشركين ومنكري البعث).
إثبات التوحيد:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ (الإخلاص: 1)
﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ ﴾ (الأنعام: 19)
إبطال الشرك:
﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾ (الزمر: 64)
﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ ﴾ (الزمر: 64)
الرد على منكري البعث:
﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ (يس: 79)
﴿ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ﴾ (الإسراء: 50)
ثانيًا: "قُل" في التشريع والمعاملات
(كما ورد في النص الأصلي، مع الآيات التي توضح العدل، وتحريم المحرمات، ومبدأ الحرية، وأولويات الإنفاق).
العدل:
﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾ (الأعراف: 29)
تحريم المحرمات:
﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ (الأنعام: 151)
مبدأ الحرية:
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾ (آل عمران: 26)
أن مبدأ الحرية في الإسلام: بين العبودية لله والتحرر من الطغيان. الحرية مبدأ أصيل في الإسلام، ينبع من الاعتراف بأن الله هو المالك المطلق للكون، وهو وحده الذي يمنح الملك والسلطة لمن يشاء وينزعها ممن يشاء. وهذا ما تؤكده الآية الكريمة:
الحرية في الإسلام ليست مطلقة، ولكنها تحرر من العبودية لغير الله. فالإنسان خُلق حرًا، لا يجوز استعباده أو إذلاله من قبل أي سلطة بشرية، لأن السلطة الحقيقية هي لله وحده.
الإسلام كفل حرية الاعتقاد، فقال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ (البقرة: 256)، مما يعني أن الإنسان مخيّر في إيمانه، ولا يحق لأحد أن يجبره على اعتناق دين أو فكر معين. كذلك الحرية السياسية والاجتماعية مصانة.
بما أن الله هو المالك الحقيقي، فإن أي حاكم أو سلطة يجب أن تستمد شرعيتها من العدل، وليس من الاستبداد. قال تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ﴾ (الشورى: 38)، مما يدل على أهمية الشورى والمشاركة الشعبية في الحكم.
فالقرآن يرفض الاستبداد والطغيان، ويؤكد أن الحكم بيد الله وليس بيد فرد مستبد. قال فرعون: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ﴾ (النازعات: 24)، فكان عقابه الهلاك، لأن الطغيان يتناقض مع المبدأ الإلهي للحرية.
الحرية الحقيقية تتحقق عندما يدرك الإنسان أن العبودية لله هي قمة التحرر، وأن أي سلطة بشرية يجب أن تكون عادلة، مقيدة بأحكام الله لا بتسلط الأفراد. فالآية ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾ تؤكد أن الحكم والسيادة المطلقة لله، مما يضمن للإنسان كرامته وحريته في إطار العدل والمساواة.
أولويات الإنفاق:
﴿ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ ﴾ (البقرة: 215)
ثالثًا: "قُل" في الدعوة والمناظرة والحوار
(كما ورد في النص الأصلي، مع الآيات التي تتناول الحوار بالحكمة والبرهان، ووحدة الرسالات، وبشرية الرسول).
الحوار بالحكمة والبرهان:
﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾ (البقرة: 111)
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ (الزخرف: 81)
وحدة الرسالات:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ ﴾ (الكهف: 110)
بشرية الرسول:
﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ﴾ (الأنعام: 50)
رابعًا: "قُل" في التربية الأخلاقية والتزكية
(كما ورد في النص الأصلي، مع الآيات التي تحث على الصدق، والزهد في الدنيا، والاستغفار والتوبة).
الصدق:
﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ (الزمر: 11)
الزهد في الدنيا:
﴿... قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾ (النساء: 77)
الاستغفار والتوبة:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ﴾ (الزمر: 53)
تحليل فعل "قُل
إذا تأملنا فعل الأمر "قُل" في القرآن الكريم، نجد أنه يحمل دلالات عميقة، منها:
1. التوكيد على الوحي: كون الفعل بصيغة الأمر يدل على أن النبي ﷺ مأمور بإيصال الرسالة دون زيادة أو نقصان، مما يعزز مفهوم النبوة والرسالة.
2. الإيجاز والوضوح: يأتي "قُل" في كثير من المواضع متبوعًا بجملة قصيرة تحمل معاني عظيمة، كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ التي تختصر عقيدة التوحيد في ثلاث كلمات.
3. القوة في الحجة: في سياقات الجدل، مثل قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾، يستخدم الفعل أسلوب التحدي ليفرض على المخالف تقديم حجته، مما يعزز قيمة الاستدلال العقلي في الدعوة.
4. التدرج في البلاغ: ورود "قُل" في مواضع مختلفة يعكس أن الرسالة الإسلامية شاملة ومتدرجة، تخاطب جميع فئات الناس وفقًا لمستويات فهمهم واحتياجاتهم.
الدروس المستفادة من ورود "قُل" في القرآن الكريم
1. التأكيد على أن الإسلام وحي منزل: لم يكن النبي ﷺ ينطق عن الهوى، بل كان مبلغًا أمينًا لأوامر الله.
2. وجوب التبليغ بأمانة: كما كان النبي ﷺ مأمورًا بالبلاغ، فإن المسلمين مكلفون أيضًا بنقل تعاليم الدين بالحكمة والموعظة الحسنة.
3. أهمية الحوار بالحجة والدليل: القرآن يرسّخ مبدأ الاستدلال العقلي في الرد على الشبهات والدعوة إلى الإيمان.
4. شمولية الإسلام: ورود "قُل" في العقيدة، والتشريع، والأخلاق، والمعاملات يدل على أن الإسلام منهج حياة متكامل.
5. التزكية الداخلية للمؤمن: بعض أوامر "قُل" جاءت لتعزيز التقوى والارتباط بالله، مثل الدعوة للاستغفار والتوبة.
ختامًا
إن التدبر في فعل الأمر "قُل" في القرآن الكريم يكشف عن حكمة الله في إرسال رسالته إلى البشر عبر نبيه ﷺ، ويؤكد أن الدين الإسلامي ليس اجتهادًا بشريًا، بل هو وحي إلهي شامل لكل مجالات الحياة.
فنسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، والفقه في الدين، وأن يوفقنا للتمسك بهدي نبيه محمد ﷺ. آمين.
-->