خواطر رمضانية (14)... تدبر ودروس من آيات الحوار بين نبي الله شعيب وقومه في السياق القرآني
الحوار أداة أساسية في الدعوة إلى الله، وقد استخدمه الأنبياء عليهم السلام لإقامة الحجة على أقوامهم. ومن أبرز هذه الحوارات، الحوار الذي دار بين نبي الله شعيب عليه السلام وقومه (مدين)، والذي ورد في عدة سور قرآنية.
يُظهر لنا هذا الحوار الصراع بين القيم الدينية والممارسات الاقتصادية الفاسدة، ويكشف طبيعة المجتمعات التي تقوم على الغش والاحتكار، وكيفية تعامل الأنبياء مع هذا النوع من الفساد.
أولًا: عرض الحوار كما جاء في القرآن الكريم
1. دعوة شعيب عليه السلام إلى التوحيد والإصلاح الاقتصادي
قال تعالى:
﴿وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۖ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾ (هود: 84).
بدأ شعيب عليه السلام دعوته لقومه بعبادة الله وحده، ثم انتقل إلى نصحهم بإصلاح معاملاتهم التجارية، مذكّرًا إياهم بالنعم الاقتصادية التي يعيشونها. وكان هدفه الحفاظ عليها عبر منع الغش في الكيل والميزان. نبههم إلى أن استمرارهم في الفساد رغم الخير الذي يعيشون فيه سيؤدي إلى هلاكهم.
2. استهزاء قومه به ورفضهم الإصلاح
قال تعالى:
﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ (هود: 87).
واجه قومه دعوته بالاستهزاء، واتهموه بأنه يريد التحكم في حياتهم وأموالهم، معتبرين أن الدين لا ينبغي أن يتدخل في شؤونهم المادية والتجارية.
3. رد شعيب بالحكمة والتذكير بعواقب الأمم السابقة
قال تعالى:
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود: 88).
أكد شعيب عليه السلام أنه لا يسعى إلا للإصلاح، وأن رزق الله لا يأتي بالغش والظلم، بل بالعدل والاستقامة. كما شدد على أنه لا يأمرهم بشيء إلا وهو ملتزم به بنفسه.
4. تهديدهم له بالطرد أو العودة إلى ملتهم
قال تعالى:
﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾ (الأعراف: 88).
هدد القوم نبيهم بالطرد إذا لم يعد إلى دينهم، وهو أسلوب متكرر من أهل المصالح الفاسدة ضد المصلحين.
5. تحذير شعيب لهم من العذاب القادم
قال تعالى:
﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ۗ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ (هود: 89).
حذرهم شعيب عليه السلام من أن مصيرهم سيكون كمصير الأقوام السابقة إذا استمروا في فسادهم.
6. وقوع العذاب على قوم شعيب
قال تعالى:
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ (الأعراف: 91).
استمر القوم في رفض دعوته، فأنزل الله عليهم عقابًا مدمرًا بالرجفة (الزلزال) التي قضت عليهم تمامًا.
ثانيًا: الدروس المستفادة من الحوار
1. الدين يشمل الحياة كلها وليس فقط العبادات
قوم شعيب رفضوا تدخله في معاملاتهم، لكن الإسلام دين شامل يشمل العبادات والأخلاق والتعاملات الاقتصادية.
2. الحوار بالحكمة والهدوء هو نهج الأنبياء
استخدم شعيب عليه السلام العقل والإقناع بدلاً من العنف في دعوته.
3. المتنفذون عادة ما يرفضون الإصلاح لأنهم يعتقدون أن المال فوق الأخلاق
رفض قومه التخلي عن الغش لأنهم رأوا فيه ضررًا لمصالحهم.
4. العناد يقود إلى الهلاك
رغم التحذيرات المتكررة، أصروا على فسادهم، فاستحقوا العذاب.
5. المصلح الحقيقي لا يسعى لمصلحة شخصية
أكد شعيب أنه لا يريد مكاسب شخصية، بل يسعى للإصلاح العام.
همسة...
الأنبياء هم القدوة الحسنة، وبلدنا اليوم يعاني من المجاعة، والسلوكيات الاقتصادية الفاسدة تنتشر كما كانت في قوم شعيب. على قيادة الدولة مراقبة الأسعار، الموازين، وتواريخ الإنتاج والانتهاء للسلع والأدوية... ألا تلاحظون كيف يستمر (الروتي) في التقلص وزنه يومًا بعد يوم؟ فاتقوا الله في هذا الشعب اليمني العظيم.
ختامًا
قصة شعيب عليه السلام وقومه تقدم درسًا لكل مجتمع ينغمس في الفساد التجاري واستغلال حاجة الناس. الإسلام يجعل العدل والأمانة من ركائزه الأساسية، وكما أن الله أهلك الأمم السابقة بسبب فسادها، فإن أي مجتمع لا يقوم على العدل سيواجه مصيرًا مشابهًا.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الصدق والعدل، وأن يرزقنا القناعة والاستقامة، وأن يجعل هذا الشهر الكريم فرصة لمراجعة أنفسنا وتصحيح أخطائنا. اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واهدنا إلى سواء السبيل. آمين.
-->