لطالما عُرف اليمنيون حكامًا ومحكومين بقيمهم النبيلة، وإرثهم الحضاري العريق المستمد من دياناتهم وممالك سبأ حم ير وقحطان، رُسِّخت فيهم على إثره شرف والكرامة والتمرد على الظلم، ما جعلهم يرفضون بشاعة الطغيان السياسي والانحطاط الأخلاقي طيلة عهودهم، متمسكين بهويتهم الحضارية ومكانتهم بين الأمم بإنسانيتهم وعدلهم وقوانينهم القديمة المختلفة التي ذهبت أدراج النسيان ولم تنل حقها من البحث والتنقيب.
تعرض ذلك الإرث وتلك القوانين لتحديات أبرزها التأثير الدخيل، الذي استحدثه المقبور يحيى الرسي، مؤسس الإمامة الهادوية، والتجريف البشع لمسخ الهوية وطمسها، جريمة ارتكبها الرسي المؤسس لفرية نظرية الحق الإلهي المنحصر في سلالة قَدِمت من الشتات، دخيلة على الأمة اليمنية بسلوكها وفهمها للدين والحياة، عدوة الحضارة والبناء لأنها لم تألفه يومًا أو تسكنه، الرسي الذي لم يبدع في شيء سوى زرع بذور الحقد والغدر والفتنة وتمزيق النسيج اليمني مؤسس نظرية هدم البيوت وإحراق المزارع وهدم الأبار، معاكسًا لقيم الدين القائمة على مبادئ العدل والمساواة.
ورغم ذلك ظل اليمني يتسم بروح التمرد على الظلم، سواء كان واقعًا عليه أو صادراً منه، ويتسلح بقيمه الحضارية في مواجهة الطغيان، ويبقى وفيًا لكل معروف أُسديَّ إليه، حتى وإن كان في موضع السلطة، وهو ما شكل جوهر هويته التي بقيت عصية على الانحراف، باستثناء بعض الحالات الدخيلة التي لا تمثل أصالة هذا الشعب.
لقد أظهرت القنوات الإعلامية بشاعة نظام العصابة العلوية بقيادة حافظ الأسد الدخيلة على الشعب السوري القادمة من وراء حدوده، والذي تَنكَر لكل من وقف معه، قبل اغتصابه السلطة حتى من وقفوا معه وأسسوا لحكمه وعلى رأسهم رفيقه الضابط العلوي صلاح جديد الذي أمعن في تعذيبه أخفيَّ في سجنه حتى الممات، صلاح جديد لاعب دور إقصاء الضباط السُنة من صفوف الجيش في عهد الرئيس السني أمين الحافظ، وإحلال محلهم علويين بحجة التآمر على النظام كما فُعل بضباط ثورة 26 من سبتمبر بحجة الحزبية والانتماء، ومع الفارق يظهر وفاء اليمنيين في تعاملهم مع من أحسن إليهم، حتى وإن تقلدوا السلطة.
الشهيد علي عبدالله صالح كان نموذجًا بارزًا للوفاء في تاريخنا الحديث لأصحابه، برغم الحروب والصراعات، امتاز بالتسامح، حتى مع خصومه الذين غدروا به. تلك الفروسية اليمنية التي تظهر عند النصر تكشف عن عظمة الإنسان اليمني، حيث يغلب الصفح على الانتقام، ويعلو التسامح على الجراح.
وكان علي عبدالله صالح خليطًا من السلوكيات المتزنة التي زينت مواقفه لولا الكارثة الحوثية. بدءًا من حروبه مع رفقاء السلاح وحتى الحروب ضد المشروع الحوثي الإيراني، أظهر تسامحًا كبيرًا معهم بفعل تأثير اللوبي الهاشمي والإرث المفاهيمي، وما كان له أن يفعل مع أفعى تنام معه تحت الفراش. كان تسامحه مع أعداء الوطن في غير موضعه، مثلوا تشويهًا للنسيج الاجتماعي اليمني..
طُبع اليمني على الوفاء وبناء الثقة، فهو سليل الحضارات العريقة التي تُقدس العطاء والنقاء والمروءة. هذه الفطرة السوية تجعله يسمو على الصغائر، فيرتقي بأفعاله، عكس بعض البشر الذين يفتقدون أدنى درجات الوفاء، فتعلو مرتبة الحيوان عليهم قال ابن حزم الأندلسي: "إن ذلك من حميد الغرائز وكريم الشيم وفضائل الأخلاق، وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على رفيع الشرف للأمم الأصيلة".
كان كثيرون يتمنون الصبر على بقية عهد الرئيس صالح، ليتيح الزمن عبورًا أكثر سلاسة للأجيال القادمة بعيدًا عن حمولات الماضي الأليم. حالت المشاريع الهدامة كالمشروع السلالي الإمامي دون تحقيق هذا الحلم.
ما كشفت عنه وسائل الإعلام العالمية من سجون ومسالخ بشرية في سوريا يُذكِّر اليمنيين بضرورة مراجعة حساباتهم أمام مشروع نسخة نظام الملالي الإيراني في صنعاء، الذي يحمل بذور الشر ذاتها. إن الدعوات الحوثية التي كانت تطلق لنظام الأسد لاستخدام الأسلحة الكيميائية ضد الشعب السوري تعكس حجم الانحطاط الأخلاقي والتوحش الذي يتبناه محور الشر.
في ظل هذه التحديات، تتجلى القيم اليمنية التي تمنع أي تهور ضد الشعب، حتى في أوقات الصراع. لم يكن علي عبدالله صالح وفريق حكمه برغم الأخطاء الذي لا يخلُ منه نظام حكم ليقدموا على تلك الممارسات الوحشية. فقد كانوا يحملون في قلوبهم حبًا للوطن وشرفًا يمنعهم من التورط في أعمال من ذلك القبيل.
إن المدينة الفاضلة حلمٌ في السماء، لا يتحقق على الأرض. في كل مجتمع إيجابيات وسلبيات، حتى الأنظمة الغربية التي بلغت أوج الحرية والديمقراطية ترتكب أخطاءً فادحة تتعلق بانتهاك حقوق الشعوب واستغلالها.
ختامًا، وحدة الشعب اليمني بجميع أطيافه وقواه ضرورة وطنية لتجاوز الماضي الأليم واستعادة الدولة والنظام الجمهوري. فالتلاحم الوطني هو السبيل الأوحد لرفع اليمن إلى مكانته التي يستحقها بين الأمم، والسير به نحو مستقبل أكثر إشراقًا وعدالة.
-->