من المطالبة بحق العودة إلى معركة منع التهجير

صفوان سلطان
الاربعاء ، ١٢ فبراير ٢٠٢٥ الساعة ٠١:١٣ مساءً

 

مقدمة: من تهميش العودة إلى تسويق التهجير

 

لم تكن اتفاقية أوسلو مجرد محطة تفاوضية في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، بل كانت بداية لمسار طويل من تفريغ الحقوق الفلسطينية من مضمونها. كان حق العودة، الذي يُعد من الثوابت الوطنية، من أوائل الضحايا في هذه العملية، حيث تم ترحيله إلى مفاوضات الحل النهائي دون أي التزام واضح. ومع مرور الوقت، تحوّل الحق من قضية مركزية إلى ملف مؤجل، ومن ثم إلى ورقة محروقة لم تعد تحظى بأولوية في الأجندات الدولية.

 

واليوم، في ظل إعادة تشكيل المنطقة وفق المصالح الاستراتيجية للقوى الكبرى، لم يعد الحديث يقتصر على إنكار حق العودة، بل انتقل إلى مستوى أكثر خطورة: الترويج لفكرة التهجير الجماعي تحت عناوين تنموية زائفة. لم يعد الفلسطينيون يُعتبرون أصحاب قضية سياسية، بل أصبحوا يُقدَّمون كجماعة سكانية تبحث عن “تحسين أوضاعها”، وفقًا لخطاب بعض القوى الدولية، وعلى رأسها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، التي أعادت فتح ملف “الوطن البديل” بمسمّيات جديدة تتناسب مع لغة المصالح الإقليمية.

 

إرث أوسلو: من تأجيل العودة إلى فرض التهجير

 

عندما وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو عام 1993، كان الاعتقاد السائد أن تأجيل القضايا الكبرى، وعلى رأسها ملف اللاجئين، سيفتح المجال أمام تسوية عادلة في المستقبل. لكن ما حدث كان العكس تمامًا:

 1. إخراج حق العودة من دائرة الالتزام القانوني، حيث لم تتبنَّ أوسلو أي مرجعية صريحة مثل قرار الأمم المتحدة 194.

 2. تفكيك قضية اللاجئين إلى ملفات جزئية، مثل نازحي 1967 ولم شمل بعض العائلات، مما ساعد في تفريغ الحق الجماعي من مضمونه السياسي.

 3. إحلال مشروع الدولة في الضفة وغزة محل قضية اللاجئين، ما جعل التركيز ينصبّ على المفاوضات الجغرافية بدل الحقوق التاريخية.

 

بهذه الطريقة، تم تحويل حق العودة إلى مجرد مسألة تفاوضية قابلة للأخذ والرد، لا إلى حق غير قابل للتصرف كما كان يُطرح في الأدبيات السياسية الفلسطينية قبل أوسلو. هذا التمهيد السياسي سهّل لاحقًا على القوى المناهضة للحقوق الفلسطينية الانتقال إلى طرح بدائل أكثر راديكالية، مثل التهجير الجماعي وإعادة التوطين.

 

مشروع ترامب: إعادة إنتاج التهجير بغطاء اقتصادي

 

لم يكن مشروع “صفقة القرن” الذي طرحه دونالد ترامب سوى امتداد منطقي لمسار تصفية الحقوق الفلسطينية الذي بدأ في أوسلو. لكن الفارق أن ترامب لم يكتفِ بتجاهل حق العودة، بل حاول تقديم التهجير كخيار تنموي للفلسطينيين، مستخدمًا لغة اقتصادية مغلفة بوعود زائفة.

 1. إلغاء الاعتراف الرسمي بوضع اللاجئين الفلسطينيين، عبر قطع التمويل عن وكالة “الأونروا” في 2018، بهدف إنهاء أي مرجعية قانونية للجوء الفلسطيني.

 2. الترويج لحلول “بديلة”، مثل توطين الفلسطينيين في دول عربية مجاورة، مع تقديم حوافز مالية ضخمة تحت مسمى “التنمية الإقليمية”.

 3. طرح رؤية اقتصادية لغزة، تتحدث عن “تحويل القطاع إلى ريفييرا الشرق الأوسط”، وكأن المعضلة تكمن في البيئة الاستثمارية وليس في الاحتلال والحصار.

 

هذه الرؤية ليست مجرد طروحات عابرة، بل تعكس محاولة منهجية لتحويل القضية الفلسطينية من صراع حقوقي وسياسي إلى أزمة إنسانية تحتاج إلى حلول اقتصادية. ما تطرحه إدارة ترامب وحلفاؤها ليس سوى إعادة إنتاج لفكرة التهجير القسري، ولكن بأساليب أكثر نعومة ودبلوماسية.

 

إسرائيل واستثمار اللحظة التاريخية

 

في ظل ما يجري، لا يمكن تجاهل دور إسرائيل في الدفع باتجاه إعادة طرح التهجير كخيار سياسي وأمني. منذ اندلاع الحرب في غزة أواخر 2023، لم تُخفِ إسرائيل رغبتها في تقليص الوجود الفلسطيني داخل القطاع. التصريحات الإسرائيلية في هذا السياق كانت واضحة:

 • الدعوة العلنية إلى تهجير سكان غزة، حيث صرّح مسؤولون إسرائيليون بأن الفلسطينيين يجب أن “يبحثوا عن أماكن جديدة للعيش”.

 • محاولة الضغط على مصر والأردن لاستيعاب النازحين، رغم الرفض القاطع من الجانبين.

 • استخدام القوة العسكرية كأداة لدفع السكان نحو النزوح، عبر تكثيف القصف والتدمير الممنهج للبنية التحتية.

 

ما يجري ليس مجرد حرب تقليدية، بل مشروع سياسي له أبعاد ديموغرافية، يستهدف خلق واقع جديد على الأرض يفرض على الفلسطينيين خيارات لم تكن مطروحة من قبل.

 

الخاتمة: من حق العودة إلى معركة الصمود

 

قبل ثلاثة عقود، كان النقاش يدور حول كيفية تنفيذ حق العودة، واليوم أصبح التحدي الأكبر هو الحفاظ على الوجود الفلسطيني نفسه في مواجهة مخططات التهجير. لم يعد الفلسطينيون يطالبون بحقوقهم التاريخية فقط، بل أصبحوا في مواجهة مباشرة مع مشروع يستهدف تفريغ الأرض من سكانها، سواء بالقوة العسكرية أو بالضغوط الاقتصادية والسياسية.

 

لكن كما فشلت كل محاولات التهجير السابقة، فإن هذا المشروع أيضًا محكوم بالفشل. الفلسطينيون لم يصمدوا في وجه الاحتلال لعقود كي ينتهي بهم المطاف كلاجئين جدد يبحثون عن أوطان بديلة. الصراع لم يكن يومًا حول تحسين الظروف المعيشية فقط، بل حول الهوية والحقوق والسيادة. وبينما تحاول بعض القوى فرض حلولها وفق ميزان القوة، يبقى الفلسطينيون متمسكين بحقيقتهم التاريخية: هذه الأرض لهم، ولن يكون هناك سلام حقيقي بدون عودة عادلة وكاملة.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي