المناطق التهامية.. الوجع الكبير

همدان العليي
الثلاثاء ، ٠٧ مايو ٢٠٢٤ الساعة ١٠:٣٧ صباحاً

 

تبقى يوميّات سكان المناطق الساحلية الغربية اليمنية هي الأسوأ والأكثر بؤسًا في زمن الحرب، مقارنة مع بقية المحافظات الأخرى.

كان سكان هذه المناطق محرومون من كثير من الخدمات والمشاريع في السابق، أما بعد تصاعد الحرب في سبتمبر 2014، تسببت سياسة التجويع الحوثية في مفاقمة أوضاع المدنيين بشكل غير مسبوق، والهدف كما أشرنا في أكثر من مناسبة هو تحقيق مصالح جماعة الحوثي السياسية والعسكرية والعرقطائفية والاقتصاية.

 

 أستطيع القول بأنَّ سكان المناطق الساحلية الغربية في اليمن الأكثر معاناة من بين كُلّ اليمنيين لاسيما خلال سنوات الحرب. لأسباب كثيرة، أهمها ارتفاع درجة الحرارة في تلك المناطق، وحرمان السكان من المشتقات النفطية والكهرباء وسرقة المرتبات وزيادة الجبايات. ولأنَّ سكان تلك المناطق الأشد فقرًا في اليمن، فهُم لا يستطيعون الحصول على البدائل التي ينجح سكان بقية المناطق في توفيرها. لا يمكنهم شراء المشتقات النفطية والكهرباء من السوق السوداء، ولا توفير المراوح والمياه النظيفة، ولا الغذاء المناسب، كما أنَّ غالبيتهم محرومون بشكل كُلِّي من الخدمات الصحية والتعليمية المناسبة.

بسبب ارتفاع درجة الحرارة التي تتجاوز 40 درجة مئوية أحيانًا، وانقطاع التيار الكهربائي، أصبحت الحياة أشبه بالجحيم في هذه المناطق. كان الرجال يهربون من الحرارة المرتفعة في المنازل ليلًا إلى الأرصفة وأسطح البيوت، ليظفروا بشيء من الهواء البارد الذي يساعدهم على النوم، رغم المخاطر التي قد تحدث بسبب العيارات النارية الطائشة أو الراجعة من السماء بسبب المواجهات المسلحة القريبة. أمَّا النساء، فكان عليهن البقاء في منازلهن أو أكواخ القش وتحمُّل درجات الحرارة المرتفعة وما يرافقها من أمراض وأوجاع، يرافقها عدم توفُّر المياه الصالحة للشرب أو حتى الاغتسال.

بعض الأسر، أجبرها الحر على النزوح إلى ريف الحديدة حيث تتواجد فيها أشجار الموز والكاذي والمانجو والاستقرار تحتها، فالأجواء هناك أقل حرارة، فكُلَّما ابتعدت عن الساحل، انخفضت درجة الحرارة.

وكنتيجة طبيعية لارتفاع درجة الحرارة وعدم توفُّر المياه النظيفة والغذاء المناسب، انتشرت الأمراض بين الأطفال والنساء وكبار السِّن، منها الملاريا والضنك والكوليرا وأمراض جلدية مختلفة. أمَّا طلاب المدارس، فقد انتشرت صور كثير منهم وهُم في الفصول الدراسية عرايا، لأنَّهُم لا يستطيعون البقاء بملابسهم بسبب الحر الشديد، وفي الجامعات كان الطلاب يجمعون المال من بعضهم لشراء مولدات الكهرباء الصغيرة ليحظوا بإنارة ولو كانت ضعيفة تُمكِّنهم من المذاكرة.

تسبَّب هذا الوضع في وفاة كثير من المواطنين في تلك المناطق. وبالرغم من تكتُّم الحوثيين ومنع وسائل الإعلام من نشر أخبار مُفصَّلة عن هذه الحوادث إلَّا في إطار يُحدِّدونه هُم للاستغلال السياسي والتحريض ضد الحكومة اليمنية وابتزاز المنظمات، إلَّا أنَّ الصحف المحلية والدولية كشفت في بعض تقاريرها عن وفاة أكثر من 100 شخص في مستشفى الثورة بمحافظة الحديدة خلال الفترة يونيو/ حزيران والنصف الأوَّل من يوليو/ تموز 2016م بسبب ارتفاع درجة الحرارة، وعجز المستشفى عن تشغيل المُعدّات الطبية وأجهزة التكييف جراء الانقطاع التام للتيار الكهربائي(1). ولذات السبب، توفي عشرة أطفال ومُسنان في أحد مستشفيات مدينة الحديدة في يونيو/ حزيران 2019م(2). لكن هذه الأخبار لا تكشف إلَّا جزءًا يسيرًا من المعاناة، فأعداد هائلة من الأطفال والنساء وكبار السِّن في تلك المناطق كانوا يموتون دون أن يعرف عنهم أحد بسبب ارتفاع درجة الحرارة وعدم توفُّر الكهرباء.

وفي الوقت الذي كان فيه سكان المناطق التهامية يتلظّون بموجة الحر كُلَّ صيف ويُحرَمون فيه من المياه والغذاء والأدوية، كانت العناصر الحوثية السلالية تنعم في قصورها المُبرَّدة بالمكيفات والإضاءة، وتتمتع بأموال الضرائب والزكاة والسوق السوداء والجمارك والمساعدات الدولية. فلا يمكن أن تجد شخصًا ينتمي للسلالة التي تدَّعي الحق الإلهي في مناطق سيطرة الحوثية بشكل عام وتهامة بشكل خاص يعاني من الفقر والجوع ومن عدم توفُّر الكهرباء. 

  قليلة هي المحاولات التي سعت إلى كشف سياسات التجويع الممارسة من قبل الحوثيين في المناطق التهامية، من أبرزها نشاط الصحفي اليمني المعروف بسيم الجناني والذي ينتمي لمحافظة الحديدة. حيث قدَّم شهادات متكررة عن معاناة سكان هذه المناطق جراء حرمانهم من المشتقات النفطية والطاقة الكهربائية والمساعدات بشكل مُتعمَّد، وأكد بالوثائق بأنَّ الوقود المخصص لتشغيل مولدات الكهرباء يدخل إلى المدينة لكن الحوثيين يسرقونه. 

في ذروة الصيف، وفي الوقت الذي كانت الصحف تكشف عن عشرات الضحايا بسبب الحر، وتحديدًا 10 يوليو/ تموز 2016م، نشر الجناني في صفحته بموقع «فيسبوك» وثيقة صادرة عن ميناء الحديدة تؤكد دخول شحنات مازوت مُخصَّصة لتشغيل الطاقة الكهربائية، لكن الحوثيين يقومون بسرقتها، حيث قال:

 «تخيَّلوا أنَّ بعض الحوثيين لا يزالون للآن يقولون إنَّ الحصار سبب في انقطاع التيار الكهربائي عن محافظة الحديدة، وبعض القطيع من أتباعهم يُردِّدون خلفهم هذا التزييف.

هذه وثيقة تبين حركة ميناء الحديدة لليوم الأحد، شاهِدوا عدد الناقلات الموجودة في الرصيف والغاطس، ومنها عدد كبير من المشتقات النفطية، ولأوَّل مَرَّة منذ بدء الحرب يتواجد هذا العدد من الناقلات، وعلى مدى الشهور الماضية والناقلات تتدفق للميناء دون توقُّف. وللتذكير والتاريخ وصلت في مايو الماضي لميناء الحديدة ناقلة مازوت على متنها 29 ألف طن من المازوت مُخصَّصة لكهرباء الحديدة، ورفضت الميليشيات الانقلابية سداد قيمته وغادرت الناقلة الميناء، وجاءوا بعدها بناقلة لا تتجاوز حمولتها 6 ألف طن، ثلث هذه الكمية نُقلت لصنعاء بتوجيه من محمد علي الحوثي وباقي الكمية كما تشاهدون نتائجها ساعة أو ساعتين باليوم وأحياء كثيرة لم تصلها الكهرباء. ممارسات مُمنهَجة، وتركيع المواطن ليظل يبحث عن أبسط حقوقه، ويستمرون في إذلاله، في المقابل يستمر شرذمة المتحوِّثين في التضليل والتطبيل، والأقبح منهم المنافقون الذين يتجرَّعون المعاناة في النهار، ويُصفِّقون لهُم في منشوراتهم بالمساء»(3).

وفي تاريخ 18 يوليو/ تموز 2016م، أي بعد أسبوع من المنشور أعلاه، نشر الصحفي الجناني وثيقة أخرى تؤكد بأنَّ الحوثيين لم يفرغوا ناقلة المازوت المُخصَّصة للكهرباء، حيث قال: «12 يوم مضت منذ أن وصلت ناقلة المازوت «ألفا» المُخصَّصة لكهرباء الحديدة إلى غاطس ميناء الحديدة وعلى متنها 5825 طنا، ولا تزال حتى اليوم في الغاطس لم يتم إدخالها وتفريغها. رُبَّما أصبح من الطبيعي أن تسمعوا مثل هذا الخبر، ولم يَعُد صادمًا، وكُلُّ كبير وصغير في محافظة الحديدة يعرف جيِّدًا مَن السبب في معاناته». ويضيف قائلا في ذات المنشور: «ومَن يقول غير ذلك فهو من وجهة نظري منافق عليه أن يواصل ممارسة نفاقه في منشورات الشلة تزلّفًا وتقرُّبًا. ومُرْفق لكم كشف بحركة ميناء الحديدة لليوم الإثنين ويظهر فيها تواجد ناقلة المازوت في غاطس الميناء وتاريخ وصولها في 6 يوليو 2016م»(4).

وفي 22 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2017م استنكر الصحفي ذاته وصول سفن مُحمَّلة بالمازوت المُخصَّص للكهرباء، لكن مَرَّ أكثر من شهر والكهرباء مطفأة وغير مُتوفِّرة حتى في المستشفيات أو المضخات التي تُوصِّل المياه لمنازل المواطنين(5).

أمَّا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018م، فقد نشر الجناني صورًا لمولدات ومعدات كهربائية قامت جماعة الحوثي بنقلها إلى العاصمة صنعاء على متن شاحنات كبيرة، حيث كانت هذه المولدات تستخدم لتغذية مدينة الحديدة بالطاقة الكهربائية. كما قامت الجماعة بإحراق أحد مخازن معدات مؤسسة الكهرباء في شارع الخمسين ومنها محولات وكابلات وأسلاك(6).

بين الفينة والأخرى، كان الحوثيون يُنفِّذون حملات إعلامية، ويدفعون الناس للخروج في فعاليات للمطالبة بإدخال سفن الوقود، ويسردون الأضرار والمآسي السكانية الناتجة عن عدم توفُّر الطاقة الكهربائية في المستشفيات لا سِيَّما في المؤسسات الصحية في الحديدة. لكن بمجرد ما تدخل هذه الشحنات يقومون بسرقتها وإرسالها لمحافظات أخرى، أو تُقدَّم لرجال أعمال حوثيين بمُبرِّرات مختلفة. في صيف 2019م، نشر الصحفي الجناني منشورًا يستنكر قيام الحوثيين بسرقة المازوت المُخصَّص لكهرباء الحديدة بذريعة أنَّهُ خاص بمصنع عمران(7).

الجريمة ذاتها يؤكدها الصحفي اليمني المعروف ورئيس تحرير صحيفة المصدر علي الفقيه الذي نشر وثيقة على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» تُوضِّح دخول كميات كبيرة من النفط والمواد الغذائية عبر ميناء الحديدة ليوم 10 أغسطس/ آب 2021م، لكن سكان المدينة لا يستفيدون منها. وقد قال: «لتدركوا كم أنَّ عبده الحوثي دجَّال، وكم أنَّهُ وعصابته لصوص وقحون، تابعوا الكشف اليومي لحركة السفن الواصلة لميناء الحديدة والمُحمَّلة بالنفط والمواد الغذائية. ورغم كميات النفط المهولة فإنَّ مدينة الحديدة تغرق في الظلام، بينما تنتعش السوق السواء وتتضخَّم أرصدة عصابة (المسيرة اللصوصية)»(8).

وقد أدَّى تعطيل الكهرباء العمومية (الحكومية)، إلى ازدياد الطلب على الوقود المُشغِّل للمولدات التي تُغذِّي المؤسسات والفنادق والمشاريع الخاصة والكهرباء التجارية، وهذا ما جعل العناصر الحوثية المهيمنة على المناطق التهامية تتاجر بالمازوت المُخصّص لمؤسسة الكهرباء المعنية بتزويد المواطنين بالتيار الكهربائي بأسعاره الرسمية. حيث يتم بيعه للمؤسسات الخاصة، فضلا عن توزيعه للشركات الحوثية التي تقوم ببيع الكهرباء التجاري للمواطنين بأسعار مضاعفة.

 

المساعدات ومجاعة تهامة:

يعتبر سكان المناطق التهامية الأكثر فقرًا في البلاد، وقد جاءت الحوثية لتزيد من معاناتهم بشكل ممنهج. فلم تسرق مرتبات الموظفين وحسب، لكنها أيضا سرقت المساعدات المخصصة لهم.

أواخر العام 2016م، انتشرت صور في مواقع الانترنت لمجموعة من السكان – في الحديدة وحجة- تلتصق جلودهم بعظامهم من شدة الجوع، كما أكدت العديد من التقارير سقوط وفيات من النساء والأطفال جراء انعدام الغذاء وانتشار الأوبئة. حدث ذلك، في الوقت الذي تتواجد في هذه المناطق العديد من المنظمات الإغاثية على رأسها منظمة الإغاثة الإسلامية، أوكسفام، اليونيسيف، منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، برنامج الأغذية العالمي، منظمة مكافحة الفقر الفرنسية، منظمة أكتيد العالمية، وكالة التنمية والتعاون الفني، النداء الإنساني الدولية، منظمة المساعدة الطبية الدولية، المنظمة الدولية للهجرة، المجلس النرويجي للاجئين، صندوق الأمم المتحدة للسكان، منظمة الصحة العالمية، منظمة أدرا، مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، منظمة إنترسوس، الجمعية الدولية للتعاون الدولي، أطباء بلا حدود، اللجنة الدولية للصليب الأحمر. فما الذي حدث؟ أين ذهبت المساعدات التي تُقدِّمها المنظمات لسكان هذه المناطق المحدودة؟ كيف عجزت هذه المنظمات الكبيرة عن إنقاذ الجياع هناك؟

وبتتبُّع نشاط الحوثيين في هذه المناطق، كان من الواضح أنَّ عمليات النهب المُمنهَجة وفرض الهيمنة الحوثية، ساهمت في إعاقة أعمال المنظمات التي كانت تصمت بدورها كي تحافظ على دعم الدول المانحة التي قد توقف دعمها إذا ما ظهرت المنظمات بعدم قدرتها على توزيع المساعدات والوصول إلى الفقراء، وتلجأ إلى توزيعها في مناطق أخرى سكانها أقل احتياجا. 

من أمثلة هذه الحوادث، قيادي حوثي يدعى «أبو مشغل» وعشرة مرافقين مسلحين معه نهاية 2016م في مديرية الخشم بمحافظة حجة، بإغلاق مكتب منظمة المجلس النرويجي للاجئين. وقد أكد لي أحد العاملين في المنظمة أنَّهُم أخذوا الحواسيب المحمولة الخاصة بالموظفين وستالايت الإنترنت عبر الأقمار الصناعية، ليتم إغلاق مكتب المنظمة هناك، كما فَرَّ عدد من الموظفين بعد اتهامهم بأنَّهُم «دواعش». المنظمة ذاتها تعرَّضت لاعتداء آخر في فبراير/ شباط 2017م على يد الحوثيين الذين قاموا باعتقال ثلاثة من موظفي المنظمة وسائق متعاقد معها حينما كانوا يُوزِّعون مساعدات في محافظة الحديدة(9).

وفي المناطق الساحلية التابعة لمحافظة حجة، منع القيادي الحوثي علي شرف الدين، توزيع مساعدات للنازحين حتى يتم تسليم ما يُسَمَّى بالمجهود الحربي، كما قام باختطاف مدير الأمن الغذائي بمنظمة أوكسفام بمكتب شفر، التابعة لمحافظة حجة. 

كان لهذه الممارسات -وكثير مثلها- دور في تأزيم الوضع الإنساني، وهذا ما قصده المسؤول الرفيع في منظمة الأمم المتحدة لـ «أسوشيتد برس» حين أكد وجود كميات كبيرة من المساعدات التي تكفي لمواجهة أزمة الجوع في اليمن، إلَّا أنَّ كثيرًا منها سُرق و «إذا لم يكُنْ هناك فساد، فلا مجاعة». 

في أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2018م، بثَّت وسائل إعلام دولية مختلفة مشاهد لمواطنين يمنيين في المناطق التهامية التابعة لمحافظة حجة غربي اليمن، وتحديدًا في مديرية أسلم، وهُم يأكلون أوراق الشجر من شِدَّة الجوع والفقر. كانت المشاهد صادمة لكثير داخل اليمن وخارجه. وبعد حوالي عام، جاء تقرير وكالة «أسوشيتد برس» ليكشف عن الأسباب الرئيسة التي جعلت أهالي تلك المديرية يصلون لتلك المرحلة.

حيث أكدت الوكالة في التقرير المشار إليه أعلاه، أنَّ الحوثيين امتنعوا –ولشهور- عن تقديم الإذن للمنظمات الدولية بتوزيع 2000 طن من الطعام (وهو ما يكفي لإطعام 160 ألف شخص) في مديرية أسلم التي اضطر سكانها لأكل أوراق الشجر المسلوقة بسبب الجوع، وأنَّ الموافقة على توزيع المواد الغذائية جاءت بعدما فسدت المساعدات(10)(11).

 

نهب الأراضي:

 نفذ الحوثيون العديد من عمليات السطو على الأراضي في محافظة الحديدة غرب اليمن. ففي سبتمبر/أيلول 2022، اقتحمت حوالي 30 عربة محملة بالمسلحين الحوثيين و8 جرافات قرى منطقة القصرة الساحلية بمديرية بيت الفقيه، جنوبي محافظة الحديدة، وقامت العناصر الحوثية بجرف أراض تابعة للمواطنين أغلبها زراعية وسط إطلاق نار كثيف لتفريق الأهالي المحتجين ما أدى إلى وقوع ضحايا واختطاف عشرات السكان. 

في هذه العملية فقط، صادر الحوثيون أرض تبلغ مساحتها أكثر من 10 كيلو متر من المزارع ومساقي الري وأراضي الرعي التي يستفيد منها أكثر من 5000 مواطن منذ مئات السنيين في تلك المنطقة(12).

وقد اعتبر شيخ قبيلة الزرانيق -التي تسكن في تلك المنطقة- يحيى منصر، هذه الممارسات من ضمن الخطوات العنصرية التي يمارسها الحوثيون تجاه أبناء قبيلته، وأن مصادرة أراضي المواطنين الموجودة على الشريط الساحلي بهدف تحويلها إلى مواقع استثمارية لصالح الجماعة عقب انتهاء الحرب(13).

كذلك علق عضو مجلس الشورى الدكتور عصام شريم على هذه الجرائم بإشارة واضحة إلى البعد العنصري في عملية السطو على الأراضي بقوله: «ما يحدث في القصره مديرية بيت الفقية لأبناء تهامة من الزرانيق من ظلم وتجاوز ونهب وتعدي على ممتلكاتهم تحت مسميات أراضي الإمام هؤلاء أحفاده (والحوثيين أحفاده) حينا، ووقف الله وهم أبناء نبيه». ثم يتساءل شريم كونه ينتمي إلى منطقة تهامة: «طيب وأبناء تهامة؟ أرضهم وأرض أجدادهم وقبائلهم ومسقط رؤوسهم وزراعتهم وحياتهم يرجعوا مستأجرين من صاحب صعدة (الحوثي)؟».

وفي تدوينة أخرى يقول: «الجماعة تمّوا همدان (جماعة الحوثي أكملت نهب أراضي قبيلة همدان في صنعاء) ونقلوا لمقصره ودواليك. يبدو أنها معركة تصفية حسابات مع كل ماهو غير هاشمي أو كل ما يمكن أن يمت بصلة إلى عهد الإمامة»(14).

وبرغم الاحتجاجات الرافضة لما تقوم به جماعة الحوثي من عمليات نهب في الحديدة، واستنكار الأمم المتحدة لهذه الممارسات حينها(15)، إلا أن الجماعة ظلت توسع دائرة نهبها كل يوم، وتزداد وتيرتها، ففي نهاية سبتمبر/أيلول 2022، نفذ الحوثيون حملات بسط على أراضي واسعة في قرى القباصية، والمواهيب، والمشاهير، الواقعة غرب مدينة بيت الفقيه، التابعة للحديدة؛ ورافق ذلك جريمة اختطاف عشرات الأفراد من أهالي هذه القرى.

 

زراعة الألغام في تهامة وصناعة الجوع:

إضافة للأضرار الجسدية التي تعرض لها آلاف المدنيين في المناطق التهامية جراء الألغام والمتفجرات المموهة التي نشرها الحوثيون في كل مكان، ثمَّة أضرار اقتصادية بالغة يتعرض لها سكان هذه المناطق وستظل ترافقهم لعقود قادمة حتى يتم تطهيرها من الألغام بشكل تام، بعكس القصف الذي تنتهي آثاره سريعًا.

فقد حرمت الألغام آلاف المزارعين في الساحل الغربي وحجة وغيرها من المناطق اليمنية من ممارسة نشاطهم الزراعي، كما أعاقت الألغام عملية التنقل بين المناطق وحرمت آلاف الأسَر من المساعدات المُقدَّمة من المنظمات المحلية والدولية.

يؤكد تقرير صادر عن مشروع برنامج (ACLED) الدولي، والمُتخصِّص بجمع بيانات مناطق النزاع حول العالم وتحليلها، بأنَّ الاستخدام الواسع للألغام والمتفجرات المموهة يضعف أيضًا النشاط الاقتصادي. وأشار التقرير الذي صدر بعنوان: كيف تقتل الألغام التي زرعها الحوثيون المدنيين في اليمن؟، إلى أنَّ الألغام زُرعت بشكل واسع في أراضي المزارعين ومراعي الحيوانات والتي تشكّل المصدر الرئيسي لكسب العيش للعديد من العائلات في المناطق الريفية(16).

وتُعتبَر منظمة هيومن رايتس ووتش من المؤسسات الدولية القليلة التي تناولت هذه الجريمة وسلَّطت الضوء على البعد الاقتصادي لزراعة الألغام والمتفجرات المُموَّهة والكارثة المعيشية الناتجة عنها. ولأهمية تقريرها الذي صدر في أبريل/ نيسان 2019م وبهدف التوثيق التاريخي، سأضع نقاطًا مختصرة من هذا التقرير:

- زراعة الحوثيين للألغام الأرضية بشكل واسع على طول الساحل الغربي لليمن منذ منتصف 2017م قتل وجرح مئات المدنيين، ومنع منظمات الإغاثة من الوصول إلى المجتمعات الضعيفة(17).

 

وإلى جانب البَرِّ التهامي اليمني، نشرت جماعة الحوثي الموت في البحر أيضًا. فقد نشرت أعدادًا كبيرة من الألغام البحرية بعضها إيراني الصنع وبعضها صنعت محليًّا(18) مِمَّا تسبَّب في إعاقة حركة ونشاط آلاف الصيادين اليمنيين، ووفاة عدد منهم بهذه الألغام أثناء مزاولة مهنة الصيد. 

زرع الحوثيون السواحل بالألغام الأرضية والتي أعاقت عمل الصيادين المحليين، ولم يكتفوا بذلك، بل نشروا الألغام البحرية، وبهذا الشكل قضوا تمامًا على فُرص العمل وكسْب العيش لآلاف مِمَّن يمارسون أنشطة متعلقة بقطاع الصيد في المناطق الخاضعة لسيطرتهم.

أشار فريق الخبراء البارزين بشأن اليمن والتابع لمجلس حقوق الإنسان إلى النتائج الكارثية المُترتّبة عن زراعة الألغام في المناطق الساحلية تحديدًا، والتي يتفشَّى فيها الفقر منذ وقت مبكر. يقول الفريق في تقريره المعنون «اليمن: جائحة الإفلات من العقاب في أرضٍ مُعذّبة»، بأنَّهُ وجد أنَّ «استخدام الألغام قد أدَّى إلى تفاقم حالة انعدام الأمن الغذائي»، فقد «منعت الألغام الأرضية الصيادين من الوصول إلى المناطق الساحلية لصيد الأسماك، لا سِيَّما في الحديدة التي يُخيّم عليها الخوف جراء انتشار الألغام على امتداد الطُرُق الساحلية». كما أثّرت الألغام «على توافر الأسماك وأسعارها في السوق. وأدَّى وجود الألغام الأرضية إلى تخوف العديد من المزارعين من زراعة أراضيهم أو رَعْي ماشيتهم، وهو ما جعل مجتمعات الصيد والمجتمعات الريفية أكثر فقرًا في اليمن». وعن أضرار الألغام البحرية، أكد الفريق الأممي بأنَّها قتلت العديد من الصيادين في 2018م(19).

 

امتداد لجرائم الأمس

ما يتعرض له سكان تهامة من تجويع متعمد، ليس جديدا إذ لم تُعرف مرحلة حكم فيها الأئمة، ولم تضرب المجاعات البلاد اليمنية بشكل عام والمناطق التهامية تحديدا. ويكفي هنا وضع شهادة محسن العيني في كتابه «معارك ومؤامرات ضد قضية اليمن» شهادته على واقع حال أبناء تهامة في فترة حُكم بيت حميد الدين.. حيث قال:

 

«لقد تفتَّحت عيوننا أوَّل ما تفتَّحت ونحن نرى مواطنينا يفدون على صنعاء جماعات جماعات.. ينتشرون في الشوارع والأزقَّة والحواري. وكُنَّا في «مكتب الأيتام».. وكانت أعمارنا الصغيرة لا تسمح لنا بالتمييز والتفكير.. أجل كانت هذه الجماعات تتوافد على العاصمة على الخليفة.. خليفة المسلمين.. أمير المؤمنين.. المتوكل على الله رب العالمين. من تهامة، كانت تتوافد لأنَّها جائعة.. فتك بها الجوع، فخرجت من قُراها رجالًا ونساءً، هائمة على وجوهها، وظلت تهیم وتتعثَّر في خُطاها، وفي الطريق يتساقط الأطفال والنساء والشيوخ صرعى، ويظل الشباب، ويستمر الرجال يسحبون خُطاهم إلى صنعاء عاصمة مملكة ابن رسول الله، وفي صنعاء يمنع أمير المؤمنين هذه «السوائم» أن تقترب من مقامه «الشريف».. فتدق أبواب البيوت» «أیا مؤمنين، حاجة الله». وتمتلئ بهم المساجد والشوارع والحارات.. ويفتك بهم الجوع فيموتون.. ويُقدِّم أهل الخيرات فضلات موائدهم فيتناولها هؤلاء، فيموتون. لقد ظلوا أيامًا لا يأكلون، فإنَّ واصلوا الإمساك ماتوا.. وإن أكلوا ماتوا.

كُنَّا نخرج إليهم بما تبقَّى في «قرواناتنا»(20)، ونُقدِّم لهُم ما تبقَّى من «كدمنا» وخبزنا، ونتداعى لنشاهدهم يلتهمونها التهامًا، ونُقدِّم لهُم بعد هذا كوزًا من الماء، ونتجمَّع حولهم، لنرى المشهد الأخير.. حشرجة الآنفًاس وطلوع الروح. هل نسي أهل صنعاء هذا؟ هل نسوا أنَّهُم مَلُّوا هذه المناظر وتعبوا؟ وأنَّهُم كانوا يضعون خمسة أجساد وسِتَّة في حفرة واحدة. أجل، هذا لون مِمَّا شاهدناه ونحن أطفال. هذا بعض ما وقعت عليه عيوننا ونحن صغار، وكُنَّا لا نعرف أنَّ هذا هو ما يقولون له: الظلم. كُنَّا لا ندري ما هو الطغيان، لم يُحدِّثونا عنه شيئًا.. كُنَّا فقط نسمعهم يُسبِّحون بحمد الله... عفوًا، بحمد الإمام»(21).

 

هوامش ومراجع:

 

1-الحرّ في اليمن يقتل العشرات، العربي الجديد، 11 يوليو/ تموز 2016م.

2-وفاة 10 أطفال واثنين مسنين جراء ارتفاع درجة الحرارة وانقطاع الكهرباء في الحديدة، موقع يافع نيوز، 29 يونيو/ حزيران 2019م.

3-بسيم الجناني، منشور في فيسبوك، 10 يوليو/ تموز 2016م.

4-بسيم الجناني، منشور في فيسبوك، 18 يوليو/ تموز 2016م.

5-بسيم الجناني، منشور في فيسبوك، 22 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2017م.

6-بالصور: الحوثيون ينهبون مخازن هيئة كهرباء ومياه الريف بمدينة الحديدة، موقع تهامة إقليم تهامة، 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018م.

7-بسيم الجناني، منشور في فيسبوك، 24 يوليو/ تموز 2019م.

8-علي الفقيه، منشور في فيسبوك، 10 أغسطس/ آب 2021م.

9-موقع سويس إنفو العالمية التابع لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية، 20 فبراير/ شباط 2017م.

10- بسبب الفقر في بعض المناطق، لجأ عدد من السكان إلى تناول نباتات لم تكُنْ تؤكل إلَّا في أيام الجوع والقحط أثناء حكم الأئمة قبل ثورة 26 سبتمبر، ومنها نبات مُرّ يُعرَف محليًا باسم «الحلص».

11- Yemen’s Houthi rebels impeding UN aid flow, demand a cut، The Associated Press، February 19, 2020

12- اختطفت نحو 70 من الأهالي.. ميليشيا الحوثي تقتحم قرى في ساحل الزرانيق جنوبي الحديدة وتصادر أراضي ومنازل السكان، المصدر أونلاين، ١٣ سبتمبر/أيلول ٢٠٢٢.

13-نفسه.

14- منشور على صفحة عضو مجلس الشورى الدكتور عصام شريم في موقع التواصل «تويتر»، 13 سبتمبر/أيلول 2022.

15-تقارير مقلقة عن مصادرة أراضي المدنيين في المناطق التي تسيطر عليها جماعة أنصارالله في الحديدة، موقع أخبار الأمم المتحدة الرسمي، 15 أيلول/سبتمبر 2022.

16-HOW HOUTHI-PLANTED MINES ARE KILLING CIVILIANS IN YEMEN، 2019 Armed Conflict Location & Event Data Project (ACLED).

17-بحسب شهادة الأهالي، فإنَّ الحوثيين زرعوا الألغام في مناطق كثيرة تابعة لمحافظة الحديدة، ومنها مساحات واسعة مملوكة لتجار أو رجال أعمال أو حتى مواطنين، ثم يتم مساومة المالكين حيث يتم أخذ أموال مقابل نزع الألغام من أراضيهم بالرغم أن الأمم المتحدة تقدم منحًا وأموالا طائلة بهدف نزع الألغام وبالتالي فإنَّ مهمة نزع الألغام مجانية إلَّا أنَّ الحوثيين يزرعون الألغام ويسرقون الأموال المخصّصة لنزعها.

18- تقرير فريق الخبراء المعني باليمن 2018م، مرجع سابق، الفقرة 111، 113، ص39-40.

19- حالة حقوق الإنسان في اليمن، بما في ذلك الانتهاكات والتجاوزات المرتكبة منذ سبتمبر/ أيلول 2014م، تقرير فريق الخبراء الدوليين والإقليميين البارزين المعني باليمن 2020م، تحت عنوان فرعي: تأثير الألغام على سُبُل الوصول إلى الغذاء، الفقرة: 52، ص11.

20- جمع قروانه، وهي وعاء عميق يوضع فيها الطعام.

21- معارك ومؤامرات ضد قضية اليمن، محسن أحمد العيني، طبعة دار الشروق الأولى، 1999م، ص69 -70.

 

* من كتاب الجريمة المُركّبة.. أصول التجويع العنصري في اليمن.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي