ليس من قبيل المبالغة القول إن عمليات زراعة الألغام الأرضية التي نفذتها مليشيا الحوثي المدعومة من إيران في اليمن منذ انقلابها على السلطة العام 2014 هي الأوسع منذ الحرب العالمية الثانية، وواحدة من أخطر الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبتها المليشيا بحق حاضر ومستقبل اليمنيين.
لقد زرعت المليشيا الحوثية الألغام في كافة المناطق التي وصلت أليها، واندحرت منها، وفي تلك المناطق التي لا تزال تسيطر عليها. تفعل هذا بشكل عشوائي ودون تفريق بين مواقع عسكرية ومدنية. ألغام الحوثيين تتربص بين منازل المواطنين والمدارس والمساجد والأسواق ومناطق الرعي والزراعة ومصادر المياه والمصالح العامة والطرق الرئيسية والفرعية والمؤسسات السيادية كالمطارات والموانئ، وحتى في المياه الإقليمية وممرات الملاحة الدولية.
البرنامج الوطني للتعامل مع الألغام رصد سقوط أكثر من سبعة آلاف ضحية من المدنيين بين قتيل ومصاب غالبيتهم من النساء والاطفال بسبب شبكة الألغام التي زرعتها المليشيا الحوثية، كما خلفت تلك الألغام الآلاف من مبتوري الأطراف وتركتهم بإعاقات جسدية دائمة، ولم تسلم منها حتى المواشي التي نفق الآلاف منها -أبقار، أغنام، جمال- في مناطق الرعي بمحافظات الحديدة، مأرب، الجوف، الضالع، وشبوة.
وخلفت تلك الألغام الحوثية المئات من القصص المؤلمة لضحايا مدنيين من النساء والأطفال والكهول، ومآسي لا تكاد تنتهي، إحداها مأساة الطفل ناصر محمد (13 عام) والذي يحمل على جسده ندوبا غائرة، وفي قلبه جروحا بليغة جراء وقوعه فريسة لغم حوثي بعد خروجه من منزله للعب مع أصدقائه، انطلقت شظايا لغم نحوه ففقأت إحدى عينيه، ليبقى بعين واحدة.
اللاأخلاقية في زرع الالغام
لكن حتى الإحصائيات الصادرة عن المنظمات الدولية المكلفة برصد الألغام لا تعكس حجم الكارثة والأعداد الفعلية لضحايا ألغام الحوثيين.
وقد أكدت التقارير الحكومية الصادرة عن (البرنامج الوطني للتعامل مع الألغام) أن الألغام التي تزرعها المليشيا الحوثية لم تكن موجودة في مخازن وعتاد الجيش اليمني قبل 2014، وان تلك الألغام صُنعت محليا من قبل الحوثيين بإشراف خبراء من الحرس الثوري الإيراني وحلفاءه.
وأفاد مدير البرنامج الوطني للتعامل مع الألغام العميد ركن أمين صالح العقيلي، أن مليشيا الحوثي استخدمت مادة نترات الأمونيوم (وهي مكون رئيسي في العديد من أنواع المتفجرات المستخدمة في التلغيم) إضافة إلى مادة (TNT) كمادة متفجرة بداخل الوعاء المعدني.
كانت اليمن وقعت على اتفاقية حضر الألغام المضادة للأفراد “اوتاوا” عام 1997، وأصدرت التشريعات التي تجرم وتحرم صناعة وتصميم واستيراد وتصدير وحيازة ونقل وزراعة هذه الألغام، وتم تدمير مخزون الجيش اليمني منها في العام 2007، إلا أن قيام المليشيا الحوثية بتصنيع وزراعة مئات الآلاف من الألغام قضى على التقدم الحاصل في هذا المجال وأعاد الأوضاع لنقطة الصفر ووضع اليمن بين أكثر دول العالم الموبوءة بالألغام.
والأسوأ من ذلك هو قيام المليشيا الحوثية -بإشراف خبراء مدعومين من إيران- بتحويل الألغام المضادة للآليات إلى ألغام مضادة للأفراد عبر إيصالها بصفيحة ضغط (دواسات) تنفجر تحت ضغط (3) كجم، أي يمكن ان تفجرها وطأة قدم طفل صغير.
وقد قامت المليشيا أيضا بتصنيع العبوات الناسفة المبتكرة من متفجرات تقليدية كالصواريخ، وقذائف الدبابات، والمدفعية بعد ربطها بآلية تفجير، وتمويه الألغام والعبوات الناسفة على شكل صخور لمحاكاة الطبيعة، وصناعة القنابل الأنبوبية المصنوعة من البولي فينيركلوريد (من أنواع البلاستيك) ويمكن أن تحتوي على ما يصل إلى 30 كجم من المتفجرات.
وغالبا ما تستخدم المليشيا الحوثية تقنية المجسات الحرارية في تفعيل العبوات الناسفة والألغام التي تزرعها على هيئة صخور في الطرق العامة دون تفريق بين هدف عسكري ومدني أو رجل وامرأة أو كهل وطفل أو إنسان وحيوان، إذ تكفي حرارة جسد الضحية لتفعيل الصاعق فتنفجر العبوة الناسفة بمجرد اقتراب الضحية منها.
يمكن أن تؤدي وطأة قدم على أسلاك الضغط إلى تفجير العبوات الناسفة، كما يمكن تفجيرها بواسطة جهاز التحكم عن بعد.
وفي مسعى منها لاستهداف العاملين في الفرق الهندسية لنزع وتطهير الأراضي اليمنية من الألغام وإيقاع أكبر قدر من الضحايا بين المدنيين، قامت المليشيا الحوثية بتعديل الألغام الأكبر حجما لتتضمن جهازا مضادا للرفع، حيث تنفجر بمجرد محاولة إزالة اللغم.
هذا الإرهاب الحوثي المدعوم من إيران لم يقتصر على البر، فقد قامت المليشيا الحوثية بتصنيع الألغام البحرية وزراعتها في مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب لاستهداف السفن التجارية وناقلات النفط وتهديد خطوط الملاحة الدولية.
وسُجلت خلال الأعوام الماضية العشرات من حوادث اصطدام السفن التجارية وقوارب الصيد بالألغام البحرية، ومقتل وإصابة المئات من الصيادين على طول الشريط الساحلي.
وأعلنت القوات المشتركة للتحالف – تحالف دعم الشرعية في اليمن- بقيادة المملكة العربية السعودية عن اكتشاف وتدمير أكثر من (150) لغم بحري في إطار جهودها لتأمين سلامة الملاحة البحرية.
تطهير حقول الموت
لقد قامت الحكومة الشرعية وعبر البرنامج الوطني للتعامل مع الألغام والفرق الهندسية العسكرية التابعة لوزارة الدفاع، بالشراكة مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، والمشروع السعودي “مسام” لتطهير الأراضي اليمنية من الألغام، والدول والمنظمات الداعمة، بقطع أشواط كبيرة في نزع وإتلاف الألغام، والتوعية بمخاطرها، وتقديم المساعدة للضحايا.
وعلى الرغم من الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي سببتها سنوات من الحروب في اليمن ، تمكنت الفرق الطبية من مساعدة الضحايا من خلال إجراء الجراحة التجميلية وتركيب الأطراف الصناعية وتوفير خدمات إعادة التأهيل.
وفي إطار خطة الاستجابة الطارئة التي أقرتها الحكومة استطاع البرنامج الوطني للتعامل مع الالغام بدعم الأشقاء والأصدقاء تطهير اراضي شاسعة في اليمن من الالغام. وحتى آب /أوغسطس 2020 تم تدمير (14,031) لغم مضاد للأفراد، و (621,531) لغم مضاد للآليات. وشملت حملة توعية مدعومة من قبل اليونسيف قرابة ال 1.3 مليون يمني.
هذا بالإضافة إلى ما تم انجازه من فرق النزع والتطهير المدعومة من البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة الذي ساعد في التخلص من أكثر من 35,000 لغم ومخلفات حرب غير متفجرة عام 2019.
واستطاع مشروع “مسام” لتطهير الأراضي اليمنية من الألغام التابع لمركز الملك سلمان للاغاثة والأعمال الانسانية، لعب دور رئيسي في رسم الأمل في حياة اليمنيين من خلال تمكين النازحين من العودة لمنازلهم، وتقديم الرعاية الطبية والدعم الانساني لضحايا الالغام.
إن الاستخدام المفرط من قبل المليشيا الحوثية للألغام المضادة للأفراد والآليات والألغام المعدلة والعبوات الناسفة وزراعتها بشكل عشوائي -دون خرائط- في القرى والمدن الآهلة بالسكان وانتشار مخلفات الحرب، يشكل خطر مستدام يهدد حياة الملايين من المدنيين ويصيب الحياة العامة بالشلل ويعطل مصالح الناس ويفاقم معاناتهم الإنسانية، ويمثل عائقا أمام جهود التنمية، ويمتد بآثاره الكارثية ومخاطره البيئية لعشرات السنوات القادمة حتى بعد توقف الحرب.
وعلى الرغم من أن قضية الغام الحوثيين كانت ولا تزال قضية جوهرية في مباحثات السلام، إلا أن المبعوث الأممي مارتن غريفيث عبر عن خيبة أمله لعرقلة الحوثيين وداعميهم الايرانيين تقدم المباحثات.
فهل سيدير المجتمع الدولي والامم المتحدة ومجلس الأمن ظهره لهذه الجرائم التي سقط من جرائها الآلاف من الأطفال والنساء وكبار السن ضحايا للألغام؟
وهل سيقدم العالم المسئولين عن هكذا جرائم من قيادات المليشيا الحوثية للمحاسبة باعتبارها جرائم حرب وجرائم مرتكبة ضد الانسانية؟
-->