مكي .. أحسن حسن!

أنور العنسي
الاربعاء ، ١٧ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:٤٩ مساءً

 

أذكى ، وأرقى سياسي يمني وحتى عربي وربما عالمي قابلته في حياتي كان حسن مكي ، الأصلع المتواضع ، المثقف ، جيد التعليم المنحدر من أعرق العائلات في منطقة عسير .. 

 

أقوى ما كان فيه أن ضعفه كان كـ (تهامي) أمام جبروت المركز القبلي الحاكم في صنعاء ، وحتى الرياض (أقوى) ما فيه !

 

وأكثر من لفت إنتباهي إلى (قيمة) مكي كان ولي العهد السعودي الراحل سلطان بن عبدالعزيز ، وذلك بطريقة تعامله الودي الخاص واللافت مع (الدكتور) مكي.

 

عندما جلس الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح ذات يوم مع الأمير حين ذهب لزيارته في منتجع بين إيطاليا وسويسرا بعد تعافيه من مرضٍ ما سأله عن مغزى اهتمامه بمكي ، فقال "لقد نزعنا من أسرته ملكاً في عسير".

 

سأله مجدداً "لماذا لم تحاولوا تعويضه؟" فكان الجواب "حاولنا ذلك معه مراراً ، لكنه رفض".

 

آمن حسن مكي بقِيم اليسار الاشتراكي بشكل صادق ومخلص كأفضل من آمنوا به حول العالم أمثال (ماريو سواريش)في البرتغال أو (دانيال أورتيغا) في أمريكا اللاتينية .

 

مثقف يساري قال لي رأياً أخراً ، لا أتفق معه ، ولكن لا بأس من إيراده ، خلاصته أن "مكي لم يكن اشتراكيا ماركسيا، ولم يكن حزبيا حتى في سنوات دراسته، لكنه كان متأثرا بالاشتراكية الديمقراطية كما طبقت في أوربا، ومع الحفاظ على حرية المبادرة الفردية في الاقتصاد والتجارة، ولذلك كان منذ عودته من الدراسة وراء إنشاء الشركات المساهمة حتى في آخر أيام الإمام أحمد، وراء الانفتاح على رأس المال اليمني الخاص في الداخل والخارج للمساهمة في تنمية بلد شحيح الموارد ويحتاج لكل شيئ".

 

لكنني وقفت على قصة أخرى.

 

عندما عرض محمد عبدالوهاب جباري رجل الاقتصاد الكبير ومؤسس أقدم البنوك على الرئيس صالح إنشاء أول بنك إسلامي في اليمن ، سأل صالح مكي رأيه في الأمر ، فقاطعه جباري فوراً قبل أن يرد مكي على سؤاله "هل من المعقول أن تطلب من أبي جهل رأيه في الإسلام؟".

 

ضحك الثلاثة ضحكة ود وتسامح لم أر مثلها في حياتي!

 

سعيت إلى التعرف على مكى بقليل من الاقتراب منه ، وليس الإقتراب كثيراً منه خصوصاً أنه كان رجل سياسة وأنا باحث وطالب معرفة.

 

وافق على استقبالي في فناء منزله بما لا يتجاوز ساعة من الوقت ، حدث ذلك في ما بدى لي مجلساً لا يتسع لأكثر من شخصين لزواره.

 

أردت أن أبدأ الحديث معه بإعادته إلى ذكريات دراسته في إيطاليا التي عشقتها ، لكنه أراد أن يكون اللقاء منظماً ، وأن تكون إجاباته على أسئلة محددة.

 

بالصريح من القول ، لم تكن لدي أسئلة ، ولم أذهب إليه لإجراء حديث صحفي قدر ما كان الهدف هو سبر أغوار ذاكرة الرجل سيما في تاريخ أسرته خلال التنازع اليمني مع السعودية على إقليم عسير.

 

سألته لماذا إختار مكي أن يكون مثقفاً يساريا ً في اليمن وليس أميراً ثرياً في السعودية؟

 

قال "الإنسان لا يكون إنساناً بالمال ولا بالشنب أو العقال بل بالإنساني من القِيم".

 

في بحثي عن قصة مكي أخبرني مؤرخ يمني لم يشأ الكشف عن هويته بما يلي: "أولا، لم تكن منطقة جيزان وصبيا وأبو عريش جزء من عسير، بل كانت جزء من تهامة مرتبطة من النواحي الثقافية والسياسية والتجارية مع اليمن. عسير منطقة جبال وصحارى تختلف عن جيزان وجوارها وما تزال حتى اليوم كذلك على الرغم من شق الطرقات بينها وتكثيف الاتصالات. مثلا، البن والقات جزء من ثقافة منطقة جيزان وجبالها، وحتى كلمات أغاني لشعراء سعوديين من الحجاز تعترف بواقع تميزها الثقافي اليمني (لابسات الفل والنقش اليماني في الكفوف). أردت فقط أن أنبه إلى أن انضمام أسرة مكي إلى اليمن لم يكن اختيارا معارضا للسعودية مثل بقية المعارضين حتى من عسير، بل كان أمرا طبيعيا عاديا".

 

ما خلصت منه بعد هذا اللقاء أن مكي لم يكن مكي ، ذلك الذي تخيلت ، ولكنه كان عقلاً كبيراً ، يقرأ بتوسع ، ويحاول التوصل إلى حلول لمعظم مشاكل البشرية ، مثله مثل كثير من القليل من الأدمغة التي خسرها اليمن والعرب في مرحلةٍ ما من تاريخ العالم!

الحجر الصحفي في زمن الحوثي