أغاني العتاب: موروث يروي حكايات المرأة الريفية في اليمن

د. ياسر هاشم الهياجي
السبت ، ١٤ اكتوبر ٢٠٢٣ الساعة ٠٨:٠٩ مساءً

 

تجدها في تفاصيل الحياة، لا تعرف غير العطاء، تنسج متفردة شخصيتها بيدها وعقلها وتسهم في حفظ الموروث وإثرائه. تلك هي المرأة الريفية التي كان له دور حيوي وفاعل في تنمية المجتمعات، والمحافظة على الهويات والتقاليد الثقافية، وتعزيز التنوع الزراعي، واستدامة الموارد الطبيعية. واعترافًا بجهودها يحتفل العالم في 15 أكتوبر من كل عام باليوم العالمي للمرأة الريفية الذي حدّدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2007؛ لدعم دور المرأة الريفية وتعزيز التنمية ودفع عجلة التقدم في ظل الظروف القاهرة التي تعيشها.

واحتفاءً بدور المرأة الريفية اليمنية، الذي تمثل نموذجًا للإصرار والتفاني والقوة والعزيمة، ودعم عائلتها وتحسين أوضاع مجتمعها، في ظل قساوة الحياة وشظف العيش، سأتحدث عن بعض ما لاقته المرأة الريفية اليمنية، والذي ظهر في أحد أشكال الموروث الثقافي، المتمثل بالعتاب الذي جاء على لسانها من خلال الأغنية الشعبية التي تُعدّ لغة النفوس وترجمان العواطف.

يشكل العتاب جزءًا مهمًا من الأغاني الشعبية والفلكلورية للمرأة الريفية للتعبير عن مشاعر الحب والغيرة والغضب والاعتراض لمختلف الأمور والمواقف الحياتية والمشاكل اليومية التي تواجهها المرأة اليمنية في المجتمع الريفي، مثل: قلة الاهتمام والمتاعب وغياب الحبيب وخيبات الأمل والخيانة، في قوالب موسيقية وترانيم إيقاعية ممتعة، وبأسلوب سهل وعفوي، يعكس حياة المجتمعات الريفية الأصيلة، وتجارب النساء فيها.

عندما نتحدث عن عتاب المرأة الريفية في سياق الحب، يبدو وكأننا نفتح كتابًا فيه أعذب الشعر وأجمل الألحان، فدوّامة العواطف التي يعيشها العاشقون تصنع خلطة سحرية من الشوق والمشاعر والحنين، لتصبح ترياقًا للمحبوب، وعلى يد المرأة يصبح العتاب أداة سحرية للتعبير عن مشاعرها وأفكارها بشكل فني ومبدع.

ومن عبير العتاب في أغاني المرأة الريفية في اليمن تتكشف أمامنا العديد من الحقائق، وتتضح الكثير من البراهين، فالمرأة الريفية بكل صدقها ووضوحها وبساطتها كما عرفناها في أغاني أخرى نجدها صادقة وفيّة ودودة في أغاني العتاب الموجه كله دومًا نحو من تحب، الذي يتلمس شغاف القلب، ويجد طريقه في اكتمال العلاقة العميقة بين الأحباب، فنجد في أغانيها الطابع العاطفي النفسي المستوحى دائمًا من صميم حياة ومعاناة المرأة الريفية، ومن أجواء بيئتها، التي تستمدها من مطالع النجوم، ولوامع البروق، وأنوار الصباح، وأصوات الطيور، وفي هجعة الليل، ويقظة الفجر، وهبوب الرياح، أو ساعة هطول الأمطار، فلم تكن تلك الأغاني عبثاً أو ترفاً، بل جزءًا من حياة المرأة الريفية في سرّائها وضرائها، وكل غنوة من أغانيها تحمل مدلولات غاية في الإيحاء والتحفز.

لم تمانع المرأة الريفية على الاغتراب والهجرة؛ لأنها تعلم الأسباب الواقعية وضيق الحال التي دفعت الرجال إليها في كثيرٍ من الأحوال، لكن البُعد الجغرافي والانفصال الزمني يولد الحنين والقلق وهو أمرٌ طبيعي في هذا السياق. وتصور المرأة هذا الموقف بقولها:

من ضاق حالهُ توجه له الخُبوتْ سيّب حبيبُه يحي وإلا يموتْ

إنهما موقفان متناقضان كما يصورهما هذا النص، ففي الشطر الأول رأي موضوعي في عوامل الهجرة، وفي الشطر الآخر نقف أمام تيار عاطفي قوي، تستجدي فيه المرأة الرجل بأن يُراعي مشاعرها وأحاسيسها كإنسانة ذنبها أنها تحب، وأن هناك من يشغل مكانة خاصة في قلبها وحياتها. فالمرأة هنا تتعامل مع الواقع والهجرة كخصمين لها، ولذلك فهي تعاتب حبيبها على استسلامه لظروفه، وبالتالي قبوله بواقع الهجرة على حساب حياة ومشاعر حبيبته.

وبلا شك، سيظل الحب والفراق عدّوين لدودين أبدًا، لا يمكن الجمع أو التوفيق بينهما، والمُحب الحقيقي يتمنى دائمًا أن يعيش إلى جانب حبيبه، وليس الذي يقلقه بالتفكير فيه، وها هي المرأة تصور هذا الموقف بقولها:

الشمس غابت واختفت بِكَبّة محبة المُبعِد تصير كَذْبه

فالمرأة تريد أن تقول بأن من يغيب عن العين يغيب عن القلب أيضًا، فهي لا تتصور أن الرجل يمكن أن يحب حبيبته ويغيب عنها بعيدًا في وقتٍ واحد.. وتبدو المرأة هنا بائسة من هذا الحب الذي المفعم بالفراق والبعد، حتى فقد معناه الحقيقي ولم يبق منه إلا ما تختزنه الذاكرة من المواقف والذكريات عن ماضٍ جميل يورق صاحبته ويقلقها، ولا سيما تلك الصغيرة التي تركها حبيبها المهاجر، ولم يبق لها سوى قلبًا مملوءًا بحقائب الشوق والحنين والذكريات:

هجرتني ما هجروا البنادقْ سيبتني وأني صغير نافقْ

ثم نجدها تعاتب حبيبها وهي واقعةٌ تحت وطأة ألم الفراق الذي تتحمله صابرة؛ لأنها لا تمتلك غير الصبر سلاحًا:

حُبيبي يا هيل مخلوط مع الزِّرْ أنت لك الغربة أما أني شَصبِر

وحين يطول الانتظار، الذي تتجرع فيه ألوان العذاب؛ فإنها لا تقوى على كتمان عذابها، لذا تبعثه مضمّخًا بعطر الكاذي، محمولًا على ورق رسالتها ختمًا معمدًا باللوعة:

كتبت لك مكتوب مَغري بكاذي نقشت بالعنوان خاتم عذابي

في رحيل الحبيب والانتظار المضني، والرسائل المتكررة، والوعود المقدسة بالعودة، وأن الحب لن ينتهي، باتت تستجدي منه مجرد رسالة في صدمةٍ قوية تضرب القلب بقسوة:

كتبت لك مكتوب بالتواريخ أشتي جواب وإلا أرسل الصواريخ كتبت لك مكتوب قدُه من الضيقْ الخط من دمعي والغراء من الريقْ

كان هناك وعدٌ مقدسٌ بالعودة، وأن الحب لن ينتهي، ثم نُكث بهذا كله، حتى رسائلها لم يعد يرد عليها.

كتبت لك مكتوب بعد مكتوبْ أين الجوابات يا قليل الأسلوبْ؟!

وتزداد الحسرة عند المرأة وتبدأ بمناجاة السحاب وتخاطبها كشيء محسوس.

ياذي السحابْ يا طالعة كراديسْ شتخبرك عن حالة المحابيسْ!

ثم تُعبِّر عن عذابها وهي تخوض معارك الوجد بعد فراق حبيبها الذي تركها لسنوات طوال، فحُسِبتْ زوجةً مع وقف التنفيذ:

خرجت نص الليل والرعد يقرحْ كُل من عشق مكتوب عليه يسرحْ

ولم تقف عند هذا الحد؛ بل لقد رفضت كل المغريات المادية والمعنوية في سبيل وصوله وحضوره من غربته:

أشتي حبيبي في جبل مقفي لو هو على اللقمة كدمه تكفي مَشْتِيْش مكتوبك ولا الصدارة أشتيك تروِّح للبلاد زيارة ما شاش زِنَانْ نَيْلُون ولا مَقَارِم ولا سِلُوْسْ فضه ولا خواتم

ورغم الأعراف الاجتماعية التي فَرضت على المرأة الكتمان، إلّا أنها تبوح بالعتاب والشكوى:

شَنْ المطر بالله اسمعوا سكيبُه يا سُعد من يسمع شُكا حبيبُه

وتستمر برفع صوتها مجاهرةً بالشوق غير آبهةٍ بالعادات، فالمحبة لم تُبقِ إلا النبض، أما الخوف فقد تلاشى من الأعماق..

قلبي يُحبك يا حبيب بلا خوفْ محبتك شلّت حمامة الجوفْ

وتستمر في الإعلان عن ظمأ الوجد وعطش الفؤاد لمَن تهيم به حبًا ووجدًا:

يا ظمئي والحب بالقلب منقوشْ كل من شِرب وأنا أهيم مربوشْ

وحين يضيق بها الحال، ويبلغ بها الوله مبلغه، تذهب نحو من تحب إلى أقصى مدى، وإلى حدّ النهاية:

فَكّيت لك صدري تشرِف تُعيّنْ إن أعجبك وإلّا الحذر تُبينْ

في رحيل الحبيب وانقطاع اللقاء، يتعاظم ألم الفراق وتتناثر ذكريات الأوقات الجميلة كأمطار خريفية على أرض جافة؛ إنها لحظات تترك في القلب أثرًا عميقًا وحنينًا لا ينتهي. ولكن مع كل هذا الوجع، يمكن أن يأتي وعد الحبيب بالعودة كشعاع من الأمل، ولهذا نجد المرأة تُذكِّر حبيبها بوعوده وعهوده علّه يعود:

طرحتلي عهدك على البنانِ إنك حبيب قلبي طول الزمانِ خلِّي حلف وأنا حلفت بعدُه ما نفترق لو غاب طول دهره

إن نقض الحبيب لوعوده تجربة مؤلمة وصعبة، فنجد المرأة تمضي في استعراض مجمل ما دار بينها وبين حبيبها في تلك الليلة من لياليهم الجميلة، فتُذكّره بكل الوعود والعهود:

طرحتلي عهدك وحدك ووحدي ليطرحوا لحدك بجنب لحدي

وتستمر المرأة في عتاب حبيبها محاولةً استثارة عواطفه بذكر بعض الأماكن التي جمعتهما معًا في أشد لحظات الحب والعناق:

طرحتلي عهدك فوق القِعادة والعرش مفتوح والنجوم شهادة

تستخدم المرأة هنا أقصى ما تستطيع من إثارة عاطفية، فالسرير (القِعادة) والنجوم أسماء لأشياء لا يعرفها سوى ليل العشاق والمحبين، وهي وحدها التي تشاركهم في كل ما يفعلون خلال ذلك الليل الساكن بعيدًا عن أعين الآخرين. كما تستثيره دينيًا بالعرش المفتوح، وأن الله وحده العالم بما دار بينهما في تلك الليلة من حبٍ وودٍ وصفاء وعهود، وهو وحده القادر على أن يثيب الوفي ويعاقب الجاحد!

بعد هذا العتاب العاطفي الممزوج بإثارة ذكريات الماضي ولحظاته الجميلة التي جمعت هذه المرأة مع حبيبها الغائب عنها.. تعود فتتساءل من جديد عن مصير تلك العهود:

عادك على عهدك او قانسينا أو قاحكم رب السماء علينا

إنه تساؤل بريء، أجمل ما فيه أن المرأة جعلت من نفسها طرفًا مباشرًا في هذا المصير الغامض لعلاقتها بحبيبها.. أما في الشطر الثاني فتتضح النزعة القدرية التي تميز سلوك المرأة الريفية عامةً، حيث نجدها مقتنعة بأنه في حالة انتهاء علاقتها مع من تحب فإن ذلك قدرٌ محتوم.. وخارج عن إرادتيهما معًا. 

وحين يطول غياب الحبيب وتفقد المرأة الأمل بالعودة، وتصبح أيام الانتظار والليالي طويلةً مملة، تخرج عن صمتها لتخبر الآخرين بعذابها، ونكد أيامها، ووحدة لياليها المظلمة بالشوق والحنين.

شاقُلُكم بالصدقِ والصراحة ما بش مع العاشق سلا وراحة

وفي صورة أخرى، تُذكِّر حبيبها معاتبةً وهو يكيل لها الكلمات المنمقة عن تعلقه بها، وأنه لن يفرط بهذا الرباط المقدس بينهما، إلا أنّ الرجل بعد ذلك قد لا يستطيع لسبب أو لآخر الوفاء بوعوده وعهوده لها، فتصور المرأة ذلك الموقف:

حُبيّبي اركتني ركينة خليتني راكب على سفينة

وعندما تتبين المرأة أنّ كل محاولاتها السابقة في سبيل إعادة المياه إلى مجاريها بخصوص علاقتها بحبيبها باءت بالفشل؛ يتملكها الحزن والغضب.

عاهدتني بالخمس والرحاحه العهد باقي والمحبه طاحه

وحين تكتشف أن كل وعود وعهود حبيبها لها كانت كاذبة، وصادرة من إنسان مجرد من مشاعر العطف والحب والوفاء، تخرج عن طورها، وتكيل له الشتائم والسِباب الذي يستحقه: 

عرفتلي وازندقي وابن سوقْ تركتلي عهدك وسط صندوقْ

إنها المرة الأولى التي اضطرت فيها المرأة أن تُصدر حكمًا قاسياً على من كانت تربطها به علاقة حب سابقة، بعد أن اكتشفت أن عهوده معها كانت مجرد خداع ودجل، مما جعله يرمي جانبًا بذلك العهد الذي قطعه لها، غير مبالٍ بأي قيمة أخلاقية أو إنسانية، وتستمر المرأة في تجسيد غضبها الشديد، وكرهها لهذا الإنسان الذي لعب بعواطفها، ويستهتر بمشاعرها، في حين كانت مطمئنة إليه، صادقة في حبها له وشعورها نحوه:

عرفتلي وازندقي واطلّاسْ تَشُلْ خبر مني وتُعلِّم الناسْ

فهي هنا سائرة في تعداد مساوئ هذا الرجل الذي خانها وخان حبها، فوصفته بأنه (زندقي)، و(ابن سوق)، وخائن العهد، وأضافت بأنه (طلّاس) أي: مراوغ وكاذب، وأخيرًا تصفه بأنه واشٍ لا يؤتمن على سر، لكن ماذا يفيد العتاب، وماذا تفيد الشكوى ما دامت قضايا الحب والخيانات غير قابلة للنقاش، وليس للمرأة الحق في المطالبة بحقوقها في هذه القضايا مهما كانت الأسباب، حتى لو اضطرت إلى تقديم الشكوى:

رُحتْ اشتكي والمحكمة مُبندْ يا قِلة الانصاف يا دين محمدْ

من أين سيأتي الإنصاف ومحكمة العاشقين مغلقة؟!، وماذا عساها تفعل هذه المرأة المغلوبة على أمرها، ونظام المحاكم لا يعرف للحب طريق؟! أما الشطر الآخر فهو صرخة واضحة في وجه الحُكّام الذين لا يراعون العمل وفق أحكام الشريعة التي تُحرِّم الظلم والقهر وامتهان كرامة الإنسان، كما أن شريعة الإسلام وضعت المساواة مبدأ أساسيًا في سبيل إرساء دعائم المجتمع الإسلامي، فما بال هؤلاء الحكام اليوم لا يعملون بأحكامها وحتى لو افترضنا أن المرأة أوصلت قضيتها إلى المحكمة، وطرحتها أمام القاضي، فإنها لن تجد منه سوى السخرية واللوم الشديد؛ لأنها تشكو رجلًا لا تقر لها المحكمة بشيء عنده، أو بعقاب يستحقه:

رحت اشتكي والمحكمة تُبكّي أبكي على ابن الناس ما هوش بملكي

يبدو أن المرأة استسلمت، واقتنعت بالأمر الواقع، وعادت إلى نفسها راضيةً بحظِّها، فلا المحاكم ولا الدموع ولا غيرها يمكن أن تُعيد لها حبيبها الذي أضاع حبها وحياتها، داعيةً على الحُكّام الذين لم ينصفوها في ظلمها.

يا قُضاة البلد من هو بظلمي تقلدْ لا صلَح له ولد ولا شفع له محمدْ

لكن المرأة بعد أن تهدأ أعصابها وتستكين عواطفها، وتسترجع ذكريات ماضيها الجميل، وتتدخل عاطفتها الأنثوية، تعود من جديد لتكشف كل أوراقها، وتفضح كل مشاعرها الرقيقة، فتصور مدى ارتباطها النفسي والشعوري بذلك الرجل الذي أحبته يومًا ما، وأخلصت له، مما جعل من الصعب عليها أن تنساه حتى بعد أن أيقنت بأنه قد بعُد عنها كليةً، وذهب يبحث عن غيرها:

يا مِرّة القهوة وعادني اسكُبْ لما عِلمت أن الحبيب يخطُبْ

غريبٌ أمر هذه المرأة، وغريبٌ أمر عواطفها، فقد أصبحت تتجرع المُر مرةً تلو الأخرى، ومع ذلك فما زالت تسميه حبيب وهو في حالة خطوبته الرسمية لامرأة أخرى، لكنها عواطف المرأة الريفية التي لا تعرف إلا الحب والصدق والوفاء، وقد أعماها الحب عن أن ترى شيئًا، وأن الوضوح العاطفي الذي يميزها قد أعماها عن أن تنظر إلى الحقيقة بعين متأنية ومتزنة، فنجدها تسير في نفس هذا الشعور، وتقول:

يا مِرّة القهوة والبُن مُحوَّجْ لما عَلِمت أن الحبيب تزوجْ

ها هو طعم الحلو أصبح مُرًا بعد أن تزوج حبيبها، وليس هذا غريبًا، إنما الغريب هو إصرارها وتمسكها بأن تسميه حبيبًا، دون تفريطٍ في هذا المعنى الذي لم يعُد منه سوى الذكريات والرباط الشعوري القديم، رغم اقتناعها بأنه لن يعود لها أبدًا.

إننا مهما بعدنا قليلًا أو كثيرًا في جوانب وأبعاد عتاب المرأة الريفية في اليمن مع من تحب، فنحن أمام تيار من الحب والعاطفة سرعان ما يتجدد، فبعد كل ما آلت اليه علاقتها مع حبيبها تعود من جديد إلى عتابه الرقيق، المفعم بالصدق والبساطة في التعبير:

ويلك من الله عيبت بي واعائبْ شأشهد علوك مُطلِّع السحائبْ

إنها لا تملك من الرد على هذا الرجل الذي انتقص كرامتها، وخدش كبريائها كذبًا وزورًا أمام الآخرين، إلا أن تُسلِّم أمرها لله ليحكم بينهما، ثم تمضي إلى أبعد من هذا في عتاب من كانت تحبه وخان حبها، مبينةً له بأنه لم يكن لها أي ذنب في كل ما أوقعه بها من أذىً وتشهير، وربما كان العُذّال والحُساد هم الذين أوقعوا بينهما:

ترمي رصاص واني ارجُمك بفُلِّي لا علموك الناس عليا قُل لي

ما أجمل هذه البساطة في التعبير، وهذا الوضوح في المعنى واستخدام الرمز المناسب، فالرصاص هنا كناية عن كلمات التشهير أمام الآخرين بعد أن خان حبها، ومع كل ذلك فهي ترد على رصاصاته بالفُّل والورد الجميل، يا لها من صورة جميلة تنهيها باعتقادها المتفائل، بأن الآخرين ربما هم سبب ذلك الفراق وهذا التشهير، ويستمر هذا العتاب الرقيق والتأسي على الماضي، والبكاء على أطلاله:

داري ودارك يا الحبيب مُقابِلْ يا من تركْ الحب له القنابل

إنه ندم عاطفي رقيق على فرصة ذهبت بعد أن توفرت فيها خصائص أخرى غير الحب، مثل الجوار، وفقدانها لهذا الحب أفقدها هذه المزايا التي قد لا تُعوّض، لكن قد تكون هناك ظروف أخرى غير الواقع الاجتماعي، وغير أن يكون لأحد الطرفين فيها سببًا في الفراق، كأنْ يكون الأب مثلًا (أب الزوجة أو أب الزوج) هو السبب الوحيد في الفصل بين حبيبين عاشقين كانا يعيشان في قمة السعادة، فتصور المرأة هذا الموقف:

جذعتني جذع الخيش من أمُه واحرمتني صدر الحبيب أشُمُّه

هنا تعتب على أبيها وسلوكه اللا إنساني، الذي أدّى إلى أن ينتزعها من العش الذي كانت تعيش فيه سعيدةً معززة مكرمة، تتبادل الحب مع حبيبها، فأحرمها من كل ذلك الحب والحنان، فصوّرت سلوك أبيها هذا معها كالذي ينزع وليدًا من أمه، وما أقسى أن يُنزع ولدًا من أمه - حيوانا كان أو إنسانا - إنه موقف آخر من مواقف المرأة الريفية تجاه ما يُفرض عليها عنوةً من تقاليد في غاية القسوة والشراسة.

وقد لا تخلو أغنية من أغانيها التي تشكو فيها من الظلم خاصةً ظلم العائلة للبنت التي قد تجاوز عمرها سن الزواج وما تزال في بيت أبيها، رغم كثرة الخُطّاب في بابها، منـها:

يا أخي الصـغير شعدلك على أبي قُل له يزوجـني مو عاد يشابي كعوب صدري حرّقوا ثيابي وجهي ذرة بيضاء خيار صِرابي

ومع أنه لم يكن للفتاة حرية اختيار شريك حياتها، ومنْ تراه مناسباً لها كزوج للحياة والعمر، إلّا أن في أغاني المرأة ما يعبر عن الرفض للشخص الذي لا تميل له ولا ترضاه زوجًا لها، وهي تقول وبكل تحدٍ:

والله القسـم لا سـرح غريب ودرويـشْ أما المحبة بالصميل ما اشتيشْ وهذه أخرى تبوح بغنائيتها بما يعتلج في صدرها: ما اشتيش أني الخيبة لا تغصبوني لو تخلسوا جِلدي وتذبحوني

هذه الأبيات التي سقناها للقارئ الكريم هي أبيات من الذاكرة الشعبية للمرأة اليمنية، وقفنا عليها في بعض كتب التراث، وما زلنا نحفظه في ذاكرتنا المرتبطة بالريف اليمني وثقافته الأصيلة، وما تزال المناجاة للحبيب والشوق إليه تبثها المرأة الريفية اليمنية حتى اليوم في مغاردها وأغانيها، في مناسبات جُلّها زراعية وفلاحية. وموروثنا اليمني بتسم بالثراء والتنوع، ويزخر بأغاني العتاب والأغاني التي تحمل تفاصيل الحنين الوجداني والشوق إلى الأحبة.

الحجر الصحفي في زمن الحوثي