رمضان في مواجهة «تسليع» الإنسان

د. محمد جميح
الاربعاء ، ١٢ مارس ٢٠٢٥ الساعة ٠٣:٥٠ صباحاً

 

 

رمضان والرمضاء مشتقان من الفعل الثلاثي «ر م ض» الذي يحيل على شدة الحرارة، أو الحريق المادي الذي يشعله في الجسد الجوع والعطش، لينبعث بسببه حريق روحي يضيء البصيرة، حسب أهل العرفان الذين ربطوا شفافية الروح برقة الجسد، وارتواءها بعطشه، وامتلاءها بجوعه، وحيث ارتواء الروح يعني تفجر جداول الحكمة، وامتلاؤها يعني مقاومة الطين.

ليس الهدف جوع الجسد وعطشه، بل تقوية مقاومة الروح، إحداث نوع من التوازن بين غذاء الروح وطعام الجسد، وهذه فلسفة لا بد منها لمواجهة طغيان الفلسفة الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية.

عندما زار الكاتب اليهودي ليو بولد فايس الذي أسلم وأطلق على نفسه اسم محمد أسد، عندما زار القاهرة، سجل في كتابه «الطريق إلى مكة» بعض الملاحظات، منها ما ذكره في قوله: «خلال هذه الأيام (أيام الصيام) ينبض الناس في شوارع القاهرة بوميض خاص في عيونهم، كما لو كانوا قد رفعوا إلى مرتبة سامية 30 ليلة».

وفي زمن طغيان المادة وفلسفة الاستهلاك المدعومة بأنياب شركات التكنولوجيا الحديثة يصبح الكلام على الروح ضرباً من الأحاديث الهزلية، لأن فلسفة الاستهلاك تريد مجتمعات مدجنة، يمكن توجيهها عن طريق أمعائها إلى الوجهة التي يراد للغرائز أن تتسع لتلتهم ما تبقى من إنسانية الإنسان، ليحصل أغوال المال على مرادهم في اختصار المجتمع في الفرد، واختصار الفرد في الجسد، وتسليع الجسد، من خلال مجموعة من الغرائز التي انتهت بالإنسان إلى تقديس التفاهة، في عالم يلهث وراء البريق الخاطف، و«التفاهة المقدسة».

ولكيلا نقع أسرى للغريزة التي يراد لنا أن نتقولب لإشباعها كان الصوم ضرورة، قبل أن يكون فريضة في معظم الأديان، لكي نتحرر من سطوة الغريزة، حيث يمثل التحرر من سطوتها بداية الطريق لمقاومة هذا الزيف المخيف الذي يلف العالم.

الصيام – إذن – فلسفة مغايرة لفلسفة الاستهلاك الرأسمالية، إنه ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب من الفجر إلى غروب الشمس، بل هو روح مقاومة، تقاوم بها القيمُ الروحية فلسفةَ الاستهلاك الرأسمالي التي تسعى لتحويل الإنسان إلى سوق، الصوم حركة مقاومة لتسليع الإنسان، لحبسه في معدته، لاختصاره في أعضائه الجنسية، إنه محاولة لتحرير الإنسان من سطوة الغريزة، ومن ثم انعتاقه من حبال الرأسمالية التي تلتف حوله بوماً بعد آخر، والتي تحاول خنق أشواق روحه بأمعائه، وهذا هو معنى حديث نبي الإسلام عن أن «الصوم جُنَّة» أو وقاية من سطوة الغرائز والماديات.

 

وبنظرة على تاريخ الأنبياء والفلاسفة والمفكرين والمعلمين الروحانيين نجد أنهم قاوموا مد الغرائز، وسعوا لتقنينها – وليس لإلغائها ـ إذ لا بد للتاريخ من غريزة لكي يتحرك، ولا بد للغريزة من تقنين، لكي تسير حركة التاريخ في مسار صحيح، حيث الغرائز المنفلتة تعني تاريخاً منفلتاً، والبطون الممتلئة تعني نهماً لا حدود له، وحيث التحول من فلسفة رمضان إلى فلسفة الاستهلاك يعني إطلاق العنان للشركات العابرة للحدود، وتجار الحروب وأغوال الفساد، لتدمير حضارة الإنسان، لنصبح في زمن تقول الرأسمالية فيه إنها ستشتري الأوطان، لتحولها إلى منتجعات ومكب غرائز تملأ الجيوب بدماء الناس، وتعمر ناطحات السحاب من عظام البشر، وتقتات على التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وامتصاص أرواح وأجساد الشعوب، في فجور لم نشهد له مثيلا.

تصوروا لو كان أقطاب الرأسمالية الذين يحكمون العالم اليوم، لو كانوا يصومون، لو كانوا يشعرون بفقراء العالم، لو كانت لديهم قيم روحية، لو عرفوا معنى القناعة، معنى السعادة المنبعثة من قوة الروح، معنى الامتلاء والري الروحي الذي يأتي من الصوم، لو كان لديهم رهافة الصائمين، هل كنا سنعيش في عالم تمتلك أدنى نسبة من سكانه أعلى نسبة من موارده، وتعيش أعلى نسبة من سكانه على أدنى نسبة من ثرواته؟!

يقول ابن عطاء الله السكندري: «إذا أردت أن تصفو روحك، فاجعل جسدك يحترق، جوعاً وعطشا، فإن الجوع نار تحرق علائق الدنيا» حيث تنفتح الروح على معان لا تتناهى من الحب والعطف والرحمة والشعور بالقرب والتواصل الفكري والعاطفي، وهي المعاني التي تقدحها نار رمضان التي تصقل الروح لتفتحها على عالم الحب، في فلسفة جلال الدين الرومي الذي قال: «كل نار تحرق إلا نار الحب، فإنها تطهر».

هذه الطهارة هي التي كان يمكن أن تمنع تغول الفلسفة الاستهلاكية التي لا تشبع من دماء وعظام ودموع غالبية سكان الكوكب، وهي الفلسفة التي قسمت العالم إلى عالمين: عالم ينتمي إلى نيويورك ولندن وطوكيو، وآخر ينتمي إلى الأحياء الهامشية، ومدن الصفيح التي تعصف بها الاضطرابات العرقية والسياسية الناتجة عن اختلال الموازين الاقتصادية في عالم لا يعرف معنى رمضان، رمضان الحقيقي الذي هو في الأصل شهر الصوم، وليس شهر الأكل والشرب والموائد العامرة.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي