عشرة في المائة ليمن افتراضي يا حُفَّاظ الودائع! (الحلقة الثالثة)

د. هاني جازم الصلوي
الجمعة ، ٠٢ مايو ٢٠٢٥ الساعة ١٠:٣٠ مساءً

 

كيف تتحدث عما بعد بعد الحداثة ونحن لم نصل إلى الحداثة بعد؟!

وللتعامل مع هذا الاعتراض المنتج؛ استمرارًا مع مفاوضة موضوعة اليمن الافتراضي، واستنادًا إلى مبادئ وجوب احترام المخالف، ومنحه الحق الطبيعي في الحصول على تبرير، وتوضيح، وأدلة، فليس أمامنا سوى عرض الواقع الحالي في العالم، والمتعلق بهذا المسار منه تحديدًا، فقد تراجع الدور المركزي للدولة لمصلحة أوضاع لامركزية، فقدت بموجب هذا التراجع الدولة القومية مبررات وجودها، لمصلحة نظام الشركات العابرة للحدود، وارتفعت في بورصة الوجود فردانية الشخص إلى قمم لم تتوافر عليها من قبل، وقد تفاقم هذا النمو الجامح للفردية وبلغ حدوده القصوى، والتي ليست، على سبيل التمثيل، سوى خطوة أولى ضعيفة مقارنة بما سيؤول إليه الوضع في المستقبل، وبتوضيح أوسع للمعنى، لم يعد من المقبول الحديث عن ذات إنسانية واحدة، أو هوية فردية جامعة، فالذات الإنسانية عينها أمست باقات لانهائية جامحة من الذوات الفاعلة، وليس ما يتراءى لأعيننا على الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي من أسماء مستعارة، وأقنعة حاجبة، سوى نتفة ضئيلة مما غدونا عليه من تناثر وتشظٍّ فاعل، وحاد، وعصري، قابل للتطور والنكوص والمراوغة، والنجاح والفشل، والحضور والغياب، قابل للصرامة والجدية والمسؤولية، بالدرجة عينها التي يقبل بها التساهل والمماطلة والحذف والتعديل، والإضافة.

 ما يؤكد ما يتفق عليه العلماء من أن الهوية بناء وليست قوالب وأنماطًا جاهزة ومعلبة قابلة للتطبيق في كل مكان وزمن، أما تراجع سيادة الدولة لحساب الشركات، وهو ما يمثل قبالتنا حقيقة راسخة، وهو أحداث قديمة في كل الأحوال، فلأن الافتراض منذ أشكاله الذهنية إبان ما بعد الحداثة قد حسم الأمر، وحيَّد الجغرافية لمصلحة الفعلية والحضور الرمزي، ففي حين لم يتجاوز رأس مال الجمهورية اليمنية في عهد استقرارها على أيام علي عبد الله صالح، حاجز ثمانية مليارات دولار، يبلغ رأس مال إحدى الشركات الصينية أكثر من ٣٠٠ مليار دولار، وثمة كيانات تجارية عابرة للحدود تتخطى هذا الرقم بكثير!، ولن يفوتنا هنا أن نذكر، استنادًا إلى لوتشيانو فلوريدي، تقريرًا مثيرًا للجدل إلى حد ما، بعنوان أفضل 200: صعود الهيمنة العالمية للشركات" Top 200: The Rise of Corporate Global Power. ، وهذا التقرير عرض منذ عدة سنوات تحليلاً لوكلاء الشركات، ... فوفقًا للتقرير: من بين أكبر 100 اقتصاد في العالم، توجد 51شركة [في العام 2000] ؛ وما لا يزيد على 49 دولة [في العام 2000] ، ومما لا شك فيه أن النسبة المئوية الآن تحركت لمصلحة عدد من هذه الشركات، الكيانات المتجاوزة لكيانات الدول.

كما أن الأفراد المعاصرين أصبحوا" يقصدون الأتمتة، بحسب روبرت صامويل في الحداثة الآلية، كلما أزمعوا الإفصاح عن استقلاليتهم، في استغناء جلي عن النظر إلى الحرية الفردية والاغتراب الآلي بوصفها قوى اجتماعية متعارضة؛ فضلاً عن إعادة هيكلة النماذج الفكرية التقليدية، والحداثية وما بعد الحداثية، الناتجة عن جمع بين المتضادات السابقة مثل هذا، جذريًّا"، ذلك أننا بلغنا مساحات" يُنظر فيها إلى الاستقلالية الفردية على أنها شيء يجب التفاوض عليه ومراجعته باستمرار ، ومن ثمَّ فهي ليست منتجًا نهائيًّا".

 

 هل وصلنا في العالم الثالث فعلاً إلى بعد ما بعد الحداثة والافتراض؟!

نستطيع التمعن في هذا السؤال، من خلال منظور الآن وحالاً، فـــــــ ... أليست عقائد الفوضى الخلاقة وراء ما يحدث الآن في الشرق الأوسط، ومنه ما يقع الآن في فلسطين-غزة، وسوريا، وليبيا، ولبنان، ووو، وهو الشرط اللحظي نفسه الذي تتهاوى فيه اليمن، ويوزع على أساسه دمها بين القبائل والتوكيلات الإقليمية، وهي أوضاع لا تعدو كونها نواتج لعمليات ورؤى ما بعد الحداثة وما تلاها، كوننا ألقينا دون وعي مسبق منا، في أتون هذه الغليانات، والمراجل، وما علينا سوى استخدام قواها لتنمية قوانا الطبيعية، نحو الأمثل، والأقدر على الفعل، دون تسليم أعناقنا لإكراهات رد الفعل التعسفية، على "أن ما علينا" التي تفرض الإلزام هذه، لا تعني سوى سياق حكمي تحدر إلينا من مسيرتنا البشرية الطويلة، وإلا فنحن في أتون الفعل شئنا أم أبينا، وهي سيرورة لها تنافذاتها الخلاقة والمرعبة، التي ترمينا بها الأحداث والظواهر كل خلجة إنسانية وزمنية، فنحن لا نفتأ نباغت بين الفينة والأخرى بمغامرات افتراضية جريئة يقوم بها أطفال ومراهقون عرب، على شكل هجمات إلكترونية، وغارات قرصنية على أهداف بنكية عالمية، وأمنية، ناظرين إلى الموضوع بصفته أنماطًا من مقاومة ومهاجمة ما يدعونها بالهيمنة العالمية، وغزوها في عقر دارها.

لم نصل إلى ما بعد الحداثة وبعدياتها حقًّا: سنقول رضوخًا مؤقتًا لحجج المتمسكين اليقينيين بالثوابت الكلاسيكية لمفاهيم الدولة الفيستفالية، وحتى الدولة البريتون ودزية الأحدث ومرجعياتهم الصلبة، ولكننا سنكون بمثل مداراة لمفهوم السائد هذه ورضوح للجاهز المقاوم للتغيير، مارسنا كذبًا مفضوحًا على أنفسنا قبل الآخرين، لكنه سيكون صادقًا ومحمود النتائج إذا كان بإمكاننا إيقاف حركة العالم نفسه!، وأنَّى لنا ذلك؟!

يتبع .... 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي