في زمنٍ غريبٍ تتقاطع فيه التصريحات مع الأفعال، وتتبدّل فيه الأدوار إلى حدّ العبث، نسمع من مسؤولي "الشرعية" شعارات الحسم وساعة الصفر، ويُعلنون أن عام 2025 هو عام الحسم، وكأنهم يملكون مفاتيح النهاية! على الشرعية أن تعقل، وتكفّ عن اجترار المصطلحات، فالله وحده يعلم الخواتيم، أما قرار الاستئناف فأنتم المسؤولون عنه.
وبينما تُعقد الاجتماعات المكوكية، وتجول هيئة التشاور والمصالحة، تمطرنا النخبة السياسية بسيلٍ من مصطلحات الحوار والسلام والانفتاح.
ويخرج علينا ناطق الحوثيين محمد عبد السلام بتصريح "حميم" عن لقائه بالمبعوث الأممي، حيث ناقش معه الأوضاع الإنسانية وتجنّب التصعيد.
وكأن هذا اللقاء يُبشّر بانفراجٍ قريب، لكننا نعلم أن المبعوث الأممي لا يظهر عادةً إلا عندما يُراد له أن يؤدي خدمة للحوثيين! فمنذ متى كان حياديًا؟!
هذا المبعوث لا نراه إلا ناقلًا للرسائل، أو ممهدًا لاتفاقات تُطبخ في عواصم غير يمنية، بعيدًا عن أوجاع اليمنيين.
فهل يُعدّ تصريح (فليته) موافقة ضمنية على الشرط الأمريكي الوحيد: وقف هجمات البحر الأحمر تمهيدًا لتوقيع خارطة الطريق السعودية–الأممية؟
ومعلوم أن لقاء فليته بالمبعوث الأممي، قد سبقه حراك سياسي لافت: زيارة الأمير خالد بن سلمان لطهران ولقاؤه بخامنئي، وتصريح السفير الأمريكي، وتحركات سياسية في الرياض، واجتماعات هيئة التشاور وممثلي الأحزاب... وكلها تعكس حراكًا نشطًا.
لكن إلى أين؟ من الذي يفاوض؟ ومن أين ينطلق؟ هل من حيث انتهت الأمور سابقًا، أم أن هيئة التشاور تسعى لإبرام اتفاق جديد؟ وعلى أي قاعدة؟!
اللقاءات تتسارع: الرئيس العليمي يلتقي التكتل الوطني، واجتماعات تُعقد في مسقط والرياض، وضغوط قصوى من الجانب الأمريكي، وقصف ودمار في الحديدة وصعدة وصنعاء ومأرب، وتحركات لافتة في حضرموت، منها عرض عسكري كبير بمناسبة "تحريرها"، وإعلان الحكم الذاتي في ظل الوضع المأزوم.
حراك واسع... لكن دون شفافية، ولا معلومات عمّن يُمثّل من، أو ماذا يُناقش.
إذا كانت الأطراف قد اقتنعت بالسلام، وتتغنّى به مؤخرًا...
فلماذا لا يُرفع الحصار؟
لماذا لا تُصرف الرواتب؟
لماذا لا تتحسن قيمة العملة؟
لماذا لا يُفرج عن الأبرياء من المعتقلات؟
أم أن المطلوب هو "سلام بين أمراء الحرب"، وكفى؟!
سلام يُبقي على مكاسبهم ويُشرعنها؟
هذا مرفوض شعبيًا، لأنه سيُعيد إنتاج الأزمة بثوب جديد!
فما يرشح للإعلام يُستخدم لتخدير المناصرين ربما، بينما ما يجري على الطاولة يختلف تمامًا عمّا يُقال، وقد لا يُقال.
هناك تحركات تُدار في الخفاء، لكن رائحتها تفوح: ضربات أمريكية نوعية تستهدف مواقع الحوثيين في الموانئ والجبهات الحساسة، وكأنها رسائل ضغط لفرض خارطة الطريق بالقوة.
تزامن ذلك مع تصريحات مُنمّقة توحي بانفراج، وعروض عسكرية يُراد بها طمأنة بعض المكونات في الداخل، واستعراض أمام الخارج، في ظل غموض متعمّد يخفي أكثر مما يُعلن.
فهل نحن أمام اتفاق وشيك؟ أم إعادة برمجة للحرب؟!
وأتساءل هنا... كيف يكون للحوثي عهد وقد اختبرناه؟!
هذا تساؤل استنكاري عن معقولية وجود عهد مع من لا يلتزمون به، ولا تتوفر فيهم الاستقامة، بل الإجرام والغدر والاستمرار فيهما!
أضعه بعهدة أصحابنا في الشرعية!
إذا كانت معادلة السلام الراهن تقوم على مبدأ الحفاظ على مكتسبات التشكيلات المسلحة والحوثيين، فهذا لا يخدم المصلحة الوطنية الجامعة بشيء.
وما يُتفق عليه لا يحظى بتأييد شعبي، ومعنى ذلك أن كلما زاد الحديث عن التسوية، زادت معاناة الشعب اليمني!
المبعوث لا يرى، ولا يسمع، ولا يتكلم...
وأمراء الحرب قد يتصالحون، بينما يُعاقب الشعب!
أبواب الرواتب مغلقة،
العملة تنهار،
الأسرى يُنسَون،
والمواطن يُترك في مهبّ الغلاء والجوع!
يا كل هؤلاء...
أي اتفاق لا يُنهي معاناة اليمنيين،
لا يُعيد الدولة،
لا يكسر انقلاب الحوثي،
لا يصون كرامة المواطن...
فهو هدنة مفخخة، لا سلام!
... وجمعة مباركة...
-->