العُقدة التّعِزِّية (السادسة والأخيرة)

توفيق السامعي
الاربعاء ، ٢٣ ابريل ٢٠٢٥ الساعة ٠٣:٥٢ مساءً

 

تتمثل أكبر سلبية لتعز في أقوى نقاطها عبر التاريخ، وهي مدنيتها وكثافتها السكانية وسطوتها الفكرية، رغم أنها تمثل أهم عوامل القوة التي لا توجد في محافظة أخرى، وكذلك التنوع فيها؛ إلا أن المدنية هي الأداة التفكيكية لها، وهي التي أضرت بتعز تماماً؛ فهي ليست وحدة اجتماعية صلبة كالقبيلة مثلاً، وليست طيفاً سياسياً واحداً مستفرداً بالحكم تمضي حسب رؤيته ومشروعه؛ فالخليط غير المتجانس لديَكتها شلّ قرارها، وإن حاول أحدهم التجرؤ والتفرد للأخذ بزمام الأمور اتحد البقية ضده وربما تحالفوا مع أعدائها، وإذا كان صالح قد اتخذ التفريق بين الأسر والقبائل بتنصيب مشايخ ثانويين ضد مشايخ أساسيين، وضرب وحدة القبيلة، جاء الحوثيون الإماميون فأحيوا النزعات العصبية الأسرية لاعتبار الهاشمية، كي تنفذ إلى المحافظة عبرها، ولذلك راحت تلصق النسب الهاشمي في بعض القبائل والأشخاص ليعملوا طليعة لها في المحافظة لتسهيل الغزو فيها وضرب مدنيتها التي تصدت للإمامة في التاريخ الحديث.

 

ومن هذا المدخل أيضاً تم ضرب حتى أحزابها؛ فإذا كان صالح اشترى بعض الحزبيين ضد بعضهم مما أضعف وحدتهم وصلابتهم، وجعل الجميع يدور حول المال لحاجتهم إليه، فقد عمل الحوثيون على تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ ودخلوا إلى الأسر، واستقطبوا بعض منتسبيها ضد البعض الآخر، وقد كان من أهم المداخل أيضاً هو ما يردده بعض المثقفين المتمصلحين غير المدركين لمآلات الأمور عن طريق لافتة (القبول بالآخر)، وهي كلمة حق أريد بها باطل، وراحت بعض المكونات والشخصيات تدق على هذا الوتر مناكفة للبعض الآخر المتصدي لهذا الغزو، وهو الشرخ الأعظم الذي أحاط بتعز ودمرها من داخلها، ولولاه لما استطاع الحوثيون النفاذ إلى عمق السنة وأرضيتها الصلبة في اليمن بشكل العام المتمثل بمحافظة تعز التي قاومت الإمامة عبر التاريخ ولصيقتها إب المعززة لتعز في كل شيء.

 

وهناك سمة غالبة على اليمنيين، ومنهم الأتعوز أيضاً، وهي أن الجميع يخضع لمن بيده قوة البطش وقوة المال، والمتحكم بمصالح الجميع، وهذا جزء من إخضاع تعز، وبحكم التجهيل الذي مورس من فترة التسعينيات وما بعد ذلك على الشباب حتى أنتج جيلاً غير واعٍ ولا مثقفاً مقارنة بأجيال السبعينيات والثمانينيات التي قارعت المشروع الإمامي ثقافياً.

 

مثلت الصراعات الداخلية بين المكونات والأحزاب أهم النقاط على الإطلاق في إيجاد موطئ قدم للحوثية؛ حيث استقوى بعضها بالحوثية وعلي صالح قبل التخلص من هذا الأخير من قبل الحوثية، والذي استخدم جمهوره بكل إمكانياته سياسيين واقتصاديين وجماهيريين وإعلاميين وعسكريين وأمنيين، ووجد هذا الجمهور نفسه مُوَرَّثاً ومتورطاً في نفس الوقت مع الحوثية بعد التخلص من صالح، ولم يجعل لنفسه خطوط رجعة تجعل من بقية التعزيين الذين مورس بحقهم القتل والتجويع والاختطاف والتعذيب القبول بهم، فاضطروا الهروب إلى الأمام مع الحوثية حتى النهاية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر قادة المؤتمر الشعبي العام في تعز من مختلف الدرجات، مثل جابر عبدالله غالب، وعبدالولي الجابري، وعبدالعزيز الجنيد، وعبدالسلام الدهبلي قبل أن يعود بعد مقتل صالح، ومحمد منصور الشوافي، وبعض مشايخ شرعب والصلو وخدير وصبر وسامع وبني يوسف والحجرية، وبعض آل البحر من أصحاب النفوذ في ماوية، ومدير مديرية المخا عبدالرحيم الفتيح، وغيرهم كثير ممن حملوا السلاح ضد تعز وشاركوا في القتال والحصار، وبعضهم رجع إلى رشده بعد استقلال طارق بالساحل وتكوين المكتب السياسي فيه دون الندم أو الاعتذار لتعز وأهلها، وظلوا مكابرين أنهم كانوا يمتلكون صفة الحقيقة والمشروعية مع أن الحوثي التهم الجميع.

 

حتى تلك الأحزاب التي اءتلفت في إطار اللقاء المشترك معارضة لصالح عادت لتتصارع بينها في تعز، ولعب الكثير منها دوراً مشبوهاً ومزدوجاً بين الجانبين؛ فهي محسوبة على المقاومة من ناحية، ولها تواصلاتها مع الحوثية من ناحية أخرى، تحرض ضد بعضها، ويتهم بعضها بعضاً، وكثير من مخاتلاتهم السياسية أضرت بصلابة المقاومة واختراق بعض الجبهات وتسببت في عدم تحقيق النصر الكامل لتعز وكانت ضمن أسباب مقتل الكثير من المقاومين والإساءة لتعز بشكل عام، ولم تغادر مربع المناكفات حتى اليوم.

 

كل هذه الأمور، وغيرها من الأسباب؛ كحب التصدر والتفرد جعل الجميع يتصارعون صراع الديكة، وكلٌ منهم يريد أن يكون هو المتصدر حتى بغير مؤهلات ولا استحقاقات ميدانية في الجبهات، التي من المفترض أن تكون أهم معايير التصدر والتعيينات. وقد قيل في المثل: "إذا كثرت الديكة فسد الفجر"!

 

الشخصية التعزية بطبيعتها شخصية تفككية تميل إلى التفرد وعدم الائتلاف والتنازل لبعضها البعض والالتقاء في المشتركات، بعكس القبيلة التي تكوّن وحدة اجتماعية صلبة؛ للفرد ما للجميع، والجميع يذوب في الفرد لتحقيق مصلحة القبيلة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه المشروع؛ لنجد مثلاً في مارب ائتلاف جميع أفراد القبائل بكل انتماءاتهم السياسية في الوحدة القبلية التي جعلت من مارب أرضية صلبة للمقاومة والثبات في وجه المشروع الحوثي، إلى جانب العامل المساعد الآخر لها هو وقوف اللاجئين إليها من كل اليمن سنداً لمقاومة مارب كآخر ملجأ يذهبون إليه ويتدرعون به.

 

فتعز لا يوجد معها مشروع جامع، كما للبعض مشاريعها الخاصة، يوحد كافة مكوناتها السياسية، ولا توجد فيها وحدة عشائرية قبلية تكوّن وحدة اجتماعية صلبة، باستثناء جزئي بسيط في شرعب ومخلاف، ولذلك هم متصدرون المشهد في تعز؛ بسبب وحدتهم القبلية إلى حدٍ ما؛ فالقبيلة في تعز ذابت من وقت مبكر؛ من أيام الدولة الرسولية التي كانت أشبه بالدولة المدنية، ثم أذابتها الحزبية والتعددية السياسية التي نشطت فيها من خمسينيات القرن الماضي.

 

كان بالإمكان أن يكون المشروع الفكري العقائدي المتمثل في السّنّة واليمننة باعتبارها عمق السنة اليمنية، في مواجهة مشروع التطييف الشيعي الإمامي كما كان عبر التاريخ؛ أو حتى المشروع الجمهوري الرافض لعودة الإمامة، لكن أياً من ذلك لم يحدث، ولم يأبه له التعزيون، مع أنه كان يمكن أن يوحد كافة اليمنيين خلفهم لمحاصرة التشيع في نطاق ضيق للغاية، وعدم الانخداع بشعارات الحوثي التي تعرت للجميع اليوم ودفعت اليمن كلها ثمنها.

 

لقد مثل تعاقب الأزمات المختلفة على اليمن عموماً، وعلى تعز خصوصاً، أزماتٍ اقتصادية كبيرة أثرت على كل فرد في اليمن، وتحولت تعز من المحافظة التجارية الأولى التي تمتلك رساميل تجارية متنوعة وأسراً تجارية مختلفة، والتي تم ضربها واستهدافها منذ تسعينيات القرن الماضي، وما زال مستمراً إلى اليوم، إلى حاجة الناس المالية؛ أفقدهم التطلع لأية مشاريع سياسية أو اقتصادية، وحلت الحاجة الشخصية الطاغية أمام كل الاحتياجات الأخرى، مما جعل الناس يتشتتون بين المكونات ذات الأموال الكبيرة التي أغدقت على البعض وشرت ولاءاتهم وذممهم المختلفة وتركوا مثالياتهم ومدينتهم تغرق في الأزمات، وتجندوا كتائب لهذا الطرف أو ذاك ضد محافظتهم في المقام الأول، مع اعتراف الكثير منهم بذلك، ومع أن قلوبهم مع المحافظة إلا أن سيوفهم مع جلاديها، لهثاً وراء المال ومصالحهم الشخصية؛ فالمبادئ لا تؤكل عيشاً كما قيل عند السياسيين.

 

فنتيجة لهذه الحاجة، وعدم وجود عزة النفس التي مثلتها الأجيال السابقة ولا القناعة الذاتية في سبيل المبادئ والعمل على التغلب عليها أظهر أبناء تعز بمظهر الفاشل ليس المستجدي وحسب، بل عديم الشخصية أيضاً، وهو حرق تاريخي للشخصية التعزية سيحرق كل مراحل المستقبل، وسيكون أبناء تعز في نظر بقية اليمنيين ممثلين للفشل والتفكك لمؤسسات الدولة بعد أن كانوا المنظرين لها وأعمدتها الأساسية.

 

مع الانقلاب الحوثي العفاشي تم التوجه لنهب وتدمير بقية البنى التحتية الاقتصادية لتعز؛ مصانعها، مؤسساتها ومقوماتها الاقتصادية؛ كمصنع البرح للأسمنت الذي كان يغذي جزءاً من الجمهورية بمادة الأسمنت، ويورد أموالاً كبيرة للخزانة العامة للدولة وللمحافظة، وكذلك المخبز الآلي في الحوبان، وشركة النفط في الضباب، ونهب كل الكابلات الكهربائية من المخاء وحتى مداخل تعز، فضلاً عن العمود الأكبر وهو مصانع الأسر التجارية التعزية الكبرى كمصانع بيت هائل سعيد في الحوبان وفي حذران، ومصانع الشيباني، وغيرها من المصانع التي تجبر اليوم أن يذهب ريعها للمليشيا الحوثية ويستخدم مالها ضد بقية المحافظة.

 

كان صالح قد تعهد بإنهاء كل مقوماتها وإعادتها إلى نقطة الصفر، كما كان يقول انتقاماً منها ومن أبنائها، على اعتبار أنه صانع منجزاتها ويريد أن ينهي تلك المنجزات، وبنهبها كل شيء في تعز سيؤدي تعويضها إلى مليارات الدولارات.. إنها الروح الانتقامية من كل شيء جميل في تعز لتركيعها وتركيع أبنائها، وبتركيعها تركع الجمهورية.

 

خلاصة الخلاصة

لماذا ينقم الجميع من تعز دون غيرها من المحافظات، مع أنها لم تغز ولم تهيمن على أيٍ من المحافظات الأخرى، ولم تستخدم السلاح كبيئة سلمية تنبذ السلاح؟!

الجواب، من خلال كامل الرصد للأحداث منذ ما لا يقل عن قرن من الزمان هو بسبب لاءاتها الثلاثة التي رفعتها في وجه كل المشاريع التمزيقية التي تغذى خارجياً.

فقد قالت: لا للإمامة، فنقم عليها الإماميون

وقالت: لا للانفصال فنقم منها الإنفصاليون

وقالت: لا لتوريث الجمهورية والاستفراد بالحكم فنقم منها العفاشيون

وبين كل هذه اللاءات والمشاريع لاءات أخرى لمشاريع صغيرة رفضتها تعز بما تمثله من تجسيد لليمن الكبير، فنقم منها الجميع في الداخل والخارج.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي