يذهب بعض المتعصبين للقول إن علياً اعتدى على الجمل الذي كان يحمل أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- بقصد قتلها أو الإضرار بها، لكن من يقرأ تلك الحادثة بعقل نظيف بعيداً عن التعصب، وبكثير من التمحيص والروّية بالأخذ بكل الروايات التي نقلت الحدث، فحصها فحصاً دقيقاً، فإن علياً وأصحابه لم يعقروا الجمل إلا ليخلصوا عائشة - رضي الله عنها- من قتل محقق بعد أن تكالبت سهام ناشبي الفتنة على هودجها حتى أصبح الهودج كالقنفد المشوك من كثرة السهام، وكان من يمسك بخطام الجمل كمن يمسك براية الجيش، والكل يطلب إسقاط الراية وقتل حاملها، حتى أنه في تلك الوقعة، كما يقول المؤرخون، بترت أكثر من سبعين يداً ممن يمسك خطام الجمل، وعندما رأى علي تكالب السهام على الهودج نادى القعقاع بن عمرو أن يَخْلُصَ إلى الجمل فيعقره حتى يسقط الجمل ويستطيعون رفع الهودج، ولما سقط الجمل ذهب محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر والقعقاع وحملوا الهودج إلى دار صفية بنت عثمان بن طلحة، وأنقذوا عائشة - رضي الله عنها-، وصار إنقاذها صنيعة معروف لها من قبل علي، وليس الإضرار على قتلها كما يقول المتعصبون.
فهل كان محمد بن أبي بكر في تلك اللحظات يريد قتل أخته عائشة التي يُكبرها جميع الصحابة ومن خلفهم ويُجِلّونها؛ فضلاً عن أخيها؟!
كان الجمل بمثابة الراية لفريق عائشة وطلحة والزبير، أو هكذا يمكن تصويره، وكأن المعركة ستنتهي بسقوط الجمل/ الراية، فقد كان وسط المعركة وكل السهام توجه نحوه، وعائشة -رضي الله عنها- لا تستطيع الخلاص في هودجها، وحوصرت من كل اتجاه، وكان كلما تم الاقتراب منه لعقره لتخليص عائشة يظن فريقها أنه سيتم الاعتداء عليها، فما كان من علي إلا مناداة القعقاع ومحمد بن أبي بكر ليعقرا الجمل، ومن هنا ذهب المتعصبون للقول إن علياً اعتدى على جمل عائشة وكان يريد قتلها، دون إنصاف، والدليل حمل فريق علي هودج عائشة بعيداً عن المعركة إلى منزل صفية بنت عثمان بن طلحة، وحينما انتهت المعركة ذهب علي للاطمئنان عليها، ثم جهزها وأعادها إلى المدينة.
وكان مما دار بينهما من الحديث، بعد أن جهزها للرحيل أعظم تجهيز من البصرة إلى المدينة؛ قالت: "يا بني، تعتب بعضنا على بعض استبطاءً واستزادة، فلا يعتدن أحدكم على أحد بشيء بلغه من ذلك، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي على معتبتي من الأخيار.
وقال علي: يا أيها الناس، صدقت والله وبرّت، ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة"(تاريخ الطبري: صـ833).
شهدت عائشة - رضي الله عنها- بصدق علي بعد مقتله، حينما قدم إليها من العراق عبدالله بن شداد بخبر استشهاد علي، فسألته، فقالت: هل إذا سألتك عن علي ومقتل القراء أكنت صادقي؟ قال لها نعم أصدُقُك، والحديث طويل يتحدث عما جرى لأهل النهروان، فلما أتم الحديث قالت: يرحم الله علياً، إنه كان من كلامه لا يرى شيئاً يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله، فيذهب أهل العراق فيكذبون عليه، ويزيدون عليه في الحديث(مسند الإمام أحمد بن حنبل: ج2/ صـ84-88).
وفي هذا الموقف قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: "عَامَّةُ السَّابِقِينَ نَدِمُوا عَلَى مَا دَخَلُوا فِيهِ مِنَ الْقِتَالِ، فَنَدِمَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَ الْجَمَلِ لِهَؤُلَاءِ قَصْدٌ فِي الِاقْتِتَالِ، وَلَكِنْ وَقَعَ الِاقْتِتَالُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَرَاسَلَ عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَقَصَدُوا الِاتِّفَاقَ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا تَمَكَّنُوا طَلَبُوا قَتَلَةَ عُثْمَانَ أَهْلَ الْفِتْنَةِ، وَكَانَ عَلِيٌّ غَيْرَ رَاضٍ بِقَتْلِ عُثْمَانَ وَلَا مُعِينًا عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ يَحْلِفُ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُ عُثْمَانَ وَلَا مَالَأْتُ عَلَى قَتْلِهِ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ فِي يَمِينِهِ، فَخَشِيَ الْقَتَلَةُ أَنْ يَتَّفِقَ عَلِيٌّ مَعَهُمْ عَلَى إِمْسَاكِ الْقَتَلَةِ، فَحَمَلُوا عَلَى عَسْكَرِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَظَنَّ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ أَنَّ عَلِيًّا حَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَحَمَلُوا دَفْعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَظَنَّ عَلِيٌّ أَنَّهُمْ حَمَلُوا عَلَيْهِ، فَحَمَلَ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، فَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رَاكِبَةٌ: لَا قَاتَلَتْ، وَلَا أَمَرَتْ بِالْقِتَالِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَخْبَارِ".. من "منهاج السنة النبوية" (4/ 316).
وقال: وكان علي –رضي الله عنه- يحلف دائماً: "إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله"، ويقول: "اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل" (منهاج السنة: لابن تيمية، ج4، ص323).
كانت عائشة - رضي الله عنها- تريد الاقتصاص من قتلة عثمان وليس حرب علي، لكنها وجدت نفسها وسط حرب ضروس قِيدت إليها من قبل الزبير وقال لها: "عسى الله أن يصلح بك بين الناس"، وأيضاً طلحة وابن أختها عبدالله بن الزبير، وكذلك ما أذكته فيها فتنة الخوارج على عثمان، وأدركت أنها على خطأ في موضع ماء الحوأب الذي تنبأ به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ففزعت وأرادت الرجوع لأنها تذكرت حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عند أزواجه: "لَيْتَ شِعْرِي، أَيَّتُكُنَّ صَاحِبَةُ الْجَمَلِ الْأَدْبَبِ، تَخْرُجُ فَيَنْبَحُهَا كِلَابُ حَوْأَبٍ، يُقْتَلُ عَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ يَسَارِهَا قَتْلَى كَثِيرٌ، ثُمَّ تَنْجُو بَعْدَمَا كَادَتْ؟!".
قال الحافظ في "الفتح" (13/55): "رجاله ثقات"، وكذا قال الهيثمي في "المجمع" (7/234)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1/853).( البداية والنهاية: ج6/ صـ212، والطبري: صـ802، إسلام ويبhttps://www.islamweb.org/ar/fatwa/print).
فقد روت عائشة بنفسها هذا الحديث، قالَت: إنَّ رسولَ اللَّهِ - صلَّى اللَّه عليهِ وسلَّمَ- قالَ لها ذاتَ يومٍ: "كَيفَ بإحداكُنَّ تَنبحُ عليها كلابُ الحَوأَبِ"!
فلما أدركت هذا الحديث في هذا الموطن ندمت ندماً شديداً، وظلت تبكي بعد ذلك على خروجها من المدينة، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ عَنْ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ لِابْنِ عُمَرَ: "يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا مَنَعَك أَنْ تَنْهَانِي عَنْ مَسِيرِي؟! قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا غَلَبَ عَلَيْك - يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ- فَقَالَتْ: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ نَهَيْتَنِي مَا خَرَجْت".(الطبري803، أدب القاضي للزيلعي: ج4/70، البداية والنهاية لابن كثير، https://www.islamweb.org/ar/fatwa/print)
فقد استغل الزبير وابنه عبدالله مكانة عائشة - رضي الله عنها- بين المسلمين، دعماً لتوجههما وهما يعلمان أن كثيراً من المسلمين سيستجيبون لها ويلتفون حولها مناصرين، وقد صدقت رؤية عمر - رضي الله عنه- فيهما، فقد كانت نيتهما في الخلافة، ولكن رفعا راية الاقتصاص لعثمان ذريعة من الذرائع، وهذا ما أدركه ابن عمر فيهما فلم يستطع منعها من الخروج (ينظر كتابنا: الإمامة.. النظرية والجريمة، فهناك تفاصيل التفاصيل لهذه القضية).
لم تكن عائشة - رضي الله عنها- وحدها من أدركت أن الأمر كله فتنة (مقتل عثمان وقتال علي) بل إن الزبير بن العوام، وهو أحد رؤساء الفريق الثالث، أدرك هذا الأمر أيضاً، وكذلك طلحة بن عبيدالله، ولكن تراجعهما كان في الوقت الضائع وقد سبق السيف العذل.
روى الطبري قال: حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا سليمان بن أرقم عن قتادة، عن أبي عمرة مولى الزبير، قال: لما بايع أهل البصرة الزبير وطلحة، قال الزبير: ألا ألف فارس أسير بهم إلى علي، فإما بيَّتُه وإما صبَّحْتُه، لعلي أقتله قبل أن يصل إلينا، فلم يجبه أحد، فقال: إن هذه لهي الفتنة التي كنا نُحَدَّثُ عنها، فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟!
قال: ويحك! إنا نُبَصَّر ولا نَبْصُر، ما كان أمرٌ قط إلا علمت موضع قدمي فيه، غير هذا الأمر فإني لا أدري أمقبلٌ أنا فيه أم مدبر!( تاريخ الطبري: ج4/صـ475، 476).
وسنجد فيما بعد أن كثيراً من الثائرين على عثمان خرجوا على علي، ومنهم زهير بن حرقوص الذي قتله علي في معركة النهروان.
ولم يكن خروج عائشة والزبير وطلحة لقتال علي في الأساس؛ فعلي ابن خال الزبير، وابن عمته صفية ولم يكن ليقاتله، وقد تنازل له عن الخلافة في قضية لجنة الشورى التي عينها عمر في حياته لاختيار خليفة من بعده؛ فتنازل طلحة لعثمان، وتنازل الزبير وسعد بن أبي وقاص لعلي، وإنما خرجوا للمطالبة بقتلة عثمان الذين آووا إلى صف علي، ولم يكن علي نفسه يقدر على قتالهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قول القائل: إن عائشة وطلحة والزبير اتهموا علياً بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك كذب بيِّن؛ بل إنما طالبوا القتلة الذين كانوا تحيزوا إلى علي، وهم يعلمون أن براءة علي من دم عثمان كبراءتهم وأعظم؛ لكن القتلة كانوا قد أووا إليه، فطلبوا قتل القتلة، ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعلي؛ لأن القوم كانت لهم قبائل يذبون عنهم" (منهاج السنة: ج4، صـ343)، ودليل هذا أن علياً لما رأى جيش عائشة والزبير وطلحة في المربد بالعراق أنس إليهم ورفض خروج قتلة عثمان معه وقرر قتالهم لكنهم كانوا أسرع إليهم بإنشابهم الفتنة بين الطرفين كما مر بنا في الحلقتين السابقتين.
-->