منذ اللحظة الأولى لانطلاق عمليات التحالف العربي في مارس 2015، وُضعت العدسة الدولية على كل غارة جوية تستهدف مواقع ميليشيا الحوثي، وتسابقَت منظمات حقوق الإنسان والمنصات الإعلامية الكبرى إلى إصدار البيانات وإعداد التقارير التي تدين وتستنكر وتطالب بوقف “القصف العشوائي”، متجاهلة السياق السياسي والعسكري للصراع، ومتعامية عن حقيقة أن التحالف العربي كان يستجيب لنداء دولة شرعية معترف بها دوليا، ويحاول منع انهيار اليمن الكامل تحت قبضة ميليشيا طائفية مسلحة.
تحت هذا الضغط الحقوقي، مُنعت القوات الحكومية الشرعية من دخول صنعاء، وتعرضت عملية تحرير الحديدة لضغوط دولية هائلة أوقفتها في منتصف الطريق، بحجة “الخشية على المدنيين”، دون أن يسأل أحد عن المدنيين الذين اختطفوا كدروع بشرية، ولا عن مئات الآلاف الذين شُرّدوا من ديارهم على يد الحوثي.
لكن اليوم، ونحن نشهد موجات متصاعدة من القصف الأمريكي على ذات الميليشيا، بدعوى حماية الملاحة الدولية، يتغير المشهد تماما. فلا بيانات استنكار، ولا تقارير أممية يومية، ولا صراخ منظمات حقوق الإنسان. يُقصف الحوثي في صنعاء والحديدة وذمار، ويُقتل قادته، وتُدمر مخازنه ومواقع إطلاق طائراته المسيرة وصواريخه، ولا أحد يثير مسألة “حقوق الإنسان” أو “البنية التحتية” أو “الخسائر في صفوف المدنيين”.
لم يتغير الحوثي، بل ازداد تطرفا، ولا تغيّر الوضع الإنساني، بل تفاقم، إنما تغيّر فقط اسم القائم بالقصف: هذه المرة ليس التحالف العربي، بل الولايات المتحدة، بقيادة دونالد ترمب، الذي لا يُؤخذ عليه ما يُؤخذ على الآخرين، فكل ما يفعله مغلف بشرعية القوة، ومحصّن بصمت دولي لا يخلو من النفاق.
ولم تكن قضية القصف وحدها ميدان الازدواجية، بل امتد التناقض ليشمل ملف الرقابة على ميناء الحديدة. ففي ذروة عمليات التحالف العربي، وعندما طُرحت فكرة إخضاع السفن الداخلة للميناء للتفتيش لضمان عدم تهريب السلاح للحوثيين، هبّت المنظمات الدولية معتبرة ذلك “حصارا” و”انتهاكا للقانون الدولي”، وطالبت بتدفق الإمدادات دون رقابة مشددة، تحت ذريعة الحفاظ على تدفق المساعدات الإنسانية.
مارست تلك المنظمات ضغوطا كبيرة أجبرت التحالف على القبول بآليات معقدة للتفتيش، بل وتم إسناد الرقابة لاحقا للأمم المتحدة عبر آلية التحقق والتفتيش (UNVIM)، التي كانت تُستغل أحيانا لتمرير الدعم للميليشيا تحت لافتة “الإغاثة”.
لكن اليوم، حين قرر ترمب إغلاق ميناء الحديدة بشكل شبه كامل – دون تنسيق مع الشرعية، ودون أي التفات للمجتمع الدولي – لم نسمع صوتا واحدا من تلك الجهات يتحدث عن “الحصار”، ولا عن “خنق الشعب اليمني”، ولا عن “الكارثة الإنسانية”. ساد الصمت، وكأن الميناء لم يكن شريان حياة. الشحنات التي كانت تُفحص بالأمس باتت تُمنع كليا من الوصول، لكن لأن القرار جاء من واشنطن، أصبح “إجراء سياديا لحماية الأمن العالمي”.
أي عدالة تلك التي تصمت حين يُقصف الحوثي أمريكيا، وتنتفض حين يُقصف عربيا؟ وأي منظمات تلك التي تحول القصف إلى قضية إنسانية حين يكون مصدره عربيا، وتعتبره “دفاعا مشروعا” حين ينفذه الغرب؟
إن العالم الذي منع اليمنيين من استعادة دولتهم بذريعة “القلق الإنساني”، هو ذاته الذي يبارك اليوم عمليات قصف لا تخلو من الأبعاد السياسية والاستراتيجية، ويغض الطرف عن نتائجها، لأنه ببساطة يثق بطيار واشنطن ولا يثق بجندي عدن.
نحن اليوم أمام لحظة كاشفة؛ لحظة تسقط كثيرا من الأقنعة، وتُظهر كيف تُستخدم مبادئ حقوق الإنسان كأدوات ضغط سياسي لا أكثر. فبين قصف وقصف تتغير المعايير، ولكن الحقيقة تبقى واحدة: لا أحد يملك حق منع الشعوب من استعادة دولتها، ولا أحد يملك تفويضا أخلاقيا بالسكوت حينا والضجيج حينا آخر.
-->