إبداع الرقيمي..  والذاكرة العمياء!

حمزة الجبيحي
السبت ، ٠٨ مارس ٢٠٢٥ الساعة ٠١:٥٠ صباحاً

للحروب مساوئها، التي لاتنحصر في موت البشر ودمار الحجر وهلاك الشجر، بل تمتد الى جوع البطون وتوهان النفوس، لتجبر الناس على الشتات والنفي الاجباري والاختياري، والبحث عن الذات والهوية خارج الحدود. ذلك هو مانسجته حروف الروائي المبدع حميد الرقيمي في روايته (عمى الذاكرة).

ـ لقد صوّرت الرواية صنعاء التي كانت قِبلة الارواح ومهوى الافئدة وعبق التاريخ، وكيف اصبحت مدينة اشباح ومخزن خوف بفعل بلطجة محتليها من الميليشيا الفوضوية، وكيف ان اليمني في صنعاء يبحث عن صنعاء!!.. فالأحرار اما سجين او مشرد، والنساء منكسرات والطفولة منتهكة، والمسنًون صامتون، وحكمة الجد الذي اختصر حالنا جميعا حينما قال ان الحرب تحيل الفرد الى انسانٍ غير طبيعي. ـ من الحكم التي تضمنتها الرواية هي مقت السلالية من خلال الرمزية التي اشارت الى الجد وهو ينصح حفيده بعدم تقليده واقتفاء اثره في كل شئ وانه يجب معرفة ماذا وكيف ومتى يتم تقليد الجد بكل ماهو حسن وايجابي والتعامل مع الوقائع بحكمة.. ليس معنى ذلك ان الحفيد لايفتخر باخلاق وقيم اسرته فتلك من المحاسن والمحمودات، فظروف حياة الاجداد مختلفة تماما عن ظروف حياة الاحفاد، وبالتالي تختلف حيالها المعالجات والتصرفات، اضافة ان كل شئ له وقته المناسب.. لتكون هذه الحكمة هي الفائدة الحقيقية التي يسفيدها الفرد من اجداده. ـ لقد شبّه الروائي الوطن بالجد، كونه الجذر لكل شخص، وعندما يموت الوطن (الجد) يصبح الشخص تائها بلا وطن خصوصا مع فقدان الام وضياع الأب!!. ـ عندما يُفتقد الوطن بين مخالب الفوضى والميليشيات وخذلان السلطة يتوه المواطن، ويبدأ رحلة البحث عن وطن وهوية يثبت بها ذاته، محاولاً التمسك حتى بأضعف الناس وبأية حيلة تدله على النهوض بنفسه، وما أسوأ ذلك عند انعدام ظهر يُستند اليه لاسترداد الوطن!!.. وبرغم ذلك لابد من السعي والاستمرار في سبيل صناعة الذات وعدم الاستسلام لليأس. ـ تطرقت الرواية الى قيمة الحب، وانه يبدأ بتكوين فكرة خاطئة عن الاخر ثم سرعان ماتتحول الى اعجاب وحب حقيقي ليبقى واحداً من الحوافز التي تشجع على الاعتزاز بالنفس واثبات القدرة على الانتاج الفكري وغيره. ـ ومما يلفت للنظر بان الكاتب لم ينس ايضا قضية العرب المحورية (فلسطين) والتي رمز اليها بمحبوبته المسماه باسم مدينة (يافا). ـ شملت الرواية احداث سقوط صنعاء في سبتمبر 2014م المشئوم واندلاع الحرب وكيف أثرت على الشباب اليمني ليصبح اما قتيلاً او جريحاً او معتقلاً او مشرد، فيصاب بانفصام الهوية والهدف! ولم يجد امامه الا البحث عن وطن يأويه غير آبهٍ بالمئالات التي سيصل إليها، حيث عرضت الرواية تنقلات الشاب اليمني في رحلة هجرته من صنعاء مروراً بعدن فالقاهرة والسودان وليبيا وصولا الى اوروبا، بعد سلوك طرقٍ محفوفةٍ بالمخاطر في هجرة غير شرعية عن طريق التهريب.

ـ ومن اروع ماحوته الرواية هو الوصف العميق والتشخيص الدقيق لحالة اليمنيين في جمهورية مصر العربية بمختلف فئاتهم المهاجرين والنازحين والمرضى والسياسيين وغيرهم. ـ لقد لخصّت الرواية حالة الشاب اليمني الذي عاش ونشأ بين حربين.. حرب صيف 1994م وحرب الانقلاب الميليشياوي اواخر 2014م، والتي عندها آمن الشاب اليمني بأنه إبن بيئةٍ طاردة لأبنائها، وفي سبيل البحث عن حياة كريمة يقرر أن يسلك طريقا كله مغامرات ليمر عبر صحاري وغابات وبحار يعاني خلالها من الجوع والخوف والمهانة وقد تكون حياته ثمناً لذلك، فلاينجو منها الا القليل. انها رواية تستحق القراءة بتمعن، وكم نتمنى تحويلها الى عمل درامي يحكي قصة اليمني الباحث عن وطن!.  

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي