لماذا نخاطب الدولة اليمنية؟!:
لماذا نخاطب الدولة اليمنية الشرعية، ونطالبها بيمن افتراضي ما دمنا نتحدث عن طوفان جارف للافتراض، في العالم واليمن جزء منه، وما دام ما ينطبق على العالم ينطبق على البلاد اليمنية، فهي ليستِ سوى أحد فضاءات العالم الحديث المترامي القارات والدول والكيانات الأحدث من الدولة والتحالفات العابرة للسياسة والجغرافيا؟!
لا تقتصر حزمة التساؤلات المنبثقة من موضوعنا هذا على ما أوردنا، بل إن ثمة عصبًا من الاستفهام النشطة والجاهزة للقفز قبالتنا، بالتوازي مع فيالق أخرى غير محصورة تواثب هذه الحزم في الميدان وأخرى من الشبكات المتسائلة عما يجري والمنخرطة في مجريات ولا تناهيات الحاضر والماضي والمستقبل معًا، وما يجب الإقرار به هنا، هو الاعتراف بعجزنا التام عن مجاراة ما أشرنا إليه، في مباِحثة صغيرة الحجم كهذه، وحتى في كتاب من ألف صفحة، بيد أن من الفعالية أيضًا تأكيد طبيعية هذا العجز في عوالمنا الجديدة، وهي طبيعة أو طبيعيات لا تنحو مناحي سلبية البتة، بل تؤجج مسارات الحلول، التي لم تعد خطية ومتماسكة اليوم، بل غدت لاخطية وتشعبية، تكمن نجاعتها في خصوباتها الدائمة.
نخاطب الدولة، بتبسيط أكثر؛ لأنها أمام المواطن اليمني والمتابع العالمي، الكيان الذي يؤطر عملياتنا السياسية والاجتماعية والإقليمية والدولية بإطارته، فهي الكيان المعترف به داخليًا وخارجيًّا، وهي من تسيطر على مقدراتنا اليمنية، رغم ما تلاقي من تحجيم وتقليص من ناحية مرتزقة محليين وعابرين للجغرافية، وما تجابهها من تحديات، ومحاولات للنيل منها ومن الوطن اليمني ككل، ولأن فعل المخاطبة نفسه مثلما ينطلق من الانحياز للمواطن، فهو ينطلق من الحرص على رمزية بوصفه إرثًا مدنيًّا مكتسبًا، لا نفكر جميعًا سوى بالحفاظ عليه، وتحديثه، وتطويره، وضخ الجديد المفيد في شرايينه.
إنها إرثنا الإداري والتنظيمي والاجتماعي، قبل أن تكون إرثنا السياسي، ولا شك أنها، إن أصغت النخب القائمة على منظومة الدولة، لا سيما في هياكلها الأعلى، لنداء الافتراض، سوف تشكل مجالاً عامًا واسعًا، لحركة المجتمعات اليمنية الجديدة، وسوف تفيد من كل الطاقات الكامنة في المجتمع، وما لم تقم بذلك حالاً! سوف تجد نفسها، خلال وقت قصير جدًّا، بعيدة لا عن المجتمع اليمني فحسب، بل عن نفسها، ولسوف تقوضها نظم افتراضية قادمة من المجتمع، من الفعاليات الافتراضية للفرد المجتمعي اليمني الرقمي، وما سيتشكل منه من مجتمعات عابرة وعنيفة، وبتأملنا في مثل هذا لن نعدم الأمثلة، ومن ذلك ما يستشهد به فلوريدي من نموذج يوناني، قائلاً:
"... بوسع هذه النظم الاستيلاء على بعض من سلطة الدولة، وعلى المدى الطويل، يجعلونها لا لزوم لها وعاطلة في سياقات كانت من قبل تتجلى فيها بوصفها الوكيل المعلوماتي الوحيد السائد، ونجد مثالاً جيدًا على ذلك في الأزمة الاقتصادية اليونانية التي بدأت في أواخر العام 2009، حيث اضطرت الحكومة والدولة في اليونان إلى التفاعل والتجاوب من أعلى مع الاتحاد الأوروبي، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، وهيئات التصنيف الائتماني، وما شابه ذلك، "وقد" كان عليهما التفاعل والتجاوب من أسفل مع وسائل الإعلام الجماهيري اليوناني، والشعب في ميدان سينتاغما Syntagma Square ، والأسواق المالية والمستثمرين الدوليين، والرأي العام الألماني، وما شابه ذلك ..".
إن مثال اليونان هنا، على بساطته رغم أن الاقتباس متعلق بميدان الإعلام، والاستجابة الميدانية، بعيدًا عن القوى العاصفة للأفعال الافتراضية، لا يمثل سوى إحالة بسيطة إلى ما سيقع فعلاً في حال ساد الافتراض مضامير التحريض على الفعل، وأشعل حرائقه الحاسمة، والأكثر قدرة على تنفيذ غلياناتها، ولنغمض أعيننا لوهلة! سنرى جموع ثائري الربيع العربي، تزأر في الميدان، مقتلعة كل الثوابت السابقة، لا تخشى شيئًا، ولا تنحني سوى لأهدافها!
سوف يكون حريًا بما يسمى بالدولة في اليمن، مثلما هو حري بالدول الأخرى، أن تسارع بإنشاء الكيانات الافتراضية المستقبلية اليمنية، لا من أجل معالجة كوارث الحاضر، ونوائبه، بل من أجل المستقبل، مآلنا القادم، شئنا أم أبينا، وهو حث واجب لجميع الكيانات الأخرى المتضمنة في الدولة، ومنها الأحزاب، لتطوير فعالياتها الافتراضية، واللجوء للمستقبل، على أن تضع في بالها، وبقوة، أن العصر لم يعد العصر، والإنسان، وهو اليمني هنا، لم يعد الإنسان، ولتراجع هي الأخرى أحداث الربيع العربي اليمني، الذي استطاعت القفز إلى قمته، بسبب ما يمارسه التاريخ أحيانًا من محسوبية، وتجن على الحاضر، وهي انتهازية لا أظن وغيري أنها ستتكرر ثانية، وعطفًا على استشهادنا السابق بفلوريدي، لنا أن نعود إلى تأكيده اضمحلال الهياكل السياسية واحتضارها، فما " يحتضر ليس هو السياسة إجمالاً، لكنها السياسة التأريخية، التي تقوم على الأحزاب، والطبقات، والأدوار الاجتماعية الثابتة، والمظاهر والبرامج السياسية، والدولة ذات السيادة، التي سعت إلى شرعية سياسية أرادت لها أن تبقى إلى الأبد وظلت تستنفدها حتى فقدت فاعليتها"...
لا حل أمام الحكومة الشرعية اليمنية، سوى الانخراط الفاعل في الافتراض، يلزمنا تأكيد الطرح في نهاية هذه المباحثة، وهو فعل، إن تحقق، سيعزز من قوة هذه الفضاءات التي تسيطر عليها، ويدين لها المواطنون اليمنيون في ربوعها بالتبعية والانتماء، بغض النظر عن الظرف الحالى الذي تخلقت فيه، فهي تقليديًّا الدولة وشبكة التصرفات المدنية المجابهة لسيطرة فصيل مليشياوي عنصري على البلاد، قبل أن تجابهه الدولة"تأكيدًا، مستعينة بجيران وإخوة في الإقليم أدركوا هم أيضًا خطورة الجموح المليشياوي في المنطقة والعالم، مثلما هي مستعينة بالمجتمع الدولي والقرار الأممي، على تقلبه وتغير فاعليه بين الفينة وأختها، ولعل من الجديد بالذكر الزعم بأن تبني الدولة للخيارات الافتراضية، مع عدم التخلي مرحليًّا عن الواقع بمفهوم التقليدي المتجذر، سوف يمكن اليمن حكومة ومجتمعًا فاعلاً، من الإفادة مما يعتقده السياسي اليمني التقليدي عنصرًا هادمًا، وأعني التشتت والتشعب وتعدد فرق صانعي القرار، وواحدًا من علل الفشل المتفشية، ليغدو اليمن به وبعدد غير قليل من الميكانزمات الفاعلة، كيانًا قويًّا منتجًا، يسهم فيه كل يمني في رقي وتطور بلاده.
أعلم، مثل غيري من المؤمنين بالرقمي والافتراضي وقدرتهما على إنتاج الحلول والبنى النشطة والخيارات الخصبة، نعم أعلم، لأتحدث مؤقتًا عن شخصي، أن مطالبات الأصدقاء لي بعد نشري مقالي الذي أشرت إليه سابقًا" مازالوا يخاطبون الملك فيصل، الإتجار بمستقبل اليمن"، بمواصلة بحث الموضوع والكتابة فيه ونشره ليتمكن الجميع من مشاركته ونقاشه، منطقية، وهو ما سعيتُ طيلة هذا المكتوب إلى الاستجابة له، إلا أن ما أود توكيده، مع ذلك، هو عجزي، ربما كما سيعجز غيري، عن التبسيط، لأن موضوعات كهذه لابد من مفاوضتها أو مناوشتها، من جوانب عدة، فهي موضوعات ملتبسة في طبيعتها، ولن أتحدث عن الافتقار الماضي إلى معرفتها، وحضور حيثياتها، فيما اعتاد الناس على قراءاته والاطلاع مكتوبًا، لأسباب كثيرة منها جنوح مثقفينا إلى البحث في الرؤى الفلسفية والبحثية والأكاديمية وحتى الصحفية العميقة، العمق بمعناه النمطي والكلاسيكي المتوارث، هذا من جانب، ومن آخر، فربما لأن ما ناقشنا من قضايا، يظهر جبروته وتتجلى سطوته، في الممارسة اليومية واللحظية، أكثر من فضاءات القراءة والكتابة، ولا أدل على ذلك مما نراه في الحياة الفردية، وفي التجمعات، والمقايل، من مداومة على التحديق في الهاتف، أو الكمبيوتر المحمول، والاتصال الدائم مع الخارج والداخل، إلى جانب عدد من الأسباب الأخرى.
ليست المناداة بالتحول صوبَ الافتراضي، صرخات مثالية، للدعوة إلى يوتوبية صعبة التحقق، وشعرية، أو تنصلاً من الواقع في جنوح صوب الخيال، إنما محاولة جادة لبيان ما تتوافر عليه بلادنا، ومواطنونا، من قوى غير مرئية، مغفلة من قبل صانع القرار، آن الأوان لتفعيلها، والإفادة، من سلطتها النافذة، وطاقتها الأغنى، ومن هنا، عمدت، كما رأينا، في مناقشة"الإتجار بمستقبل اليمن"، إلى الانطلاق من المحاولات الأولى لتبنى حكومة إلكترونية يمنية، وهي في حقيقتها محاولة لبناء برنامج حكومي إلكتروني يمني بسيط، لم يوفر له سوى القليل من الدعم، لا يتعدى الأمر معه أن يكون دعائيًّا، أو مجرد تسجيل حضور شكلي، وإن لزم هنا قبل الانتهاء من هذا العرض، أن نشير إلى تجربة وزارة الداخلية مع الحاسب الآلي التي أثبتت جدواها القوية، أيام كان على رأسها رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليوم، الدكتور رشاد العليمي، والذي بما أننا نخاطب الحكومة اليمنية اليوم، فإننا نخاطبه في المقام الأول بوصفه الرئيس، هو وبقية أعضاء مجلس القيادة الرئاسي، كما نخاطب رئاسة الحكومة أيضًا، وسائر الهيئات، كون الكل معنيًّا بما طرح بلا استثناء.
أتمنى أن يجد هذا النداء آذانًا مصيغة، سواءًّ من أعالى مستويات قيادات الدولة في اليمن إلى أسفل الهرم التنفيذي، دون استثناء الهيئات الاستشارية العليا، والقضائية، أو حتى من المانحين من الجيران أو المانحين الدوليين، الذين نتمنى عليهم أيضًا أن يهدِّفوا ما يمنحونه لليمن، وتوجيهه وجهات يفيد منها الوطن اليمني، والمواطن اليمني، مباشرة، وقد كفاني البروفسيور عبد الرحمن الزبيري، توضيح ما عنيته بــ"ما زالوا يخاطبون الملك فيصل"، حيث أكد، وهو ما أضمرته أيضًا، أنه ليس في الأمر انتقاص من قائد عربي كالملك فيصل، بقدر ما هو توضيح أننا غدونا في عصر آخر أجد له استحقاقاته، وقضاياه وحساسياته، يغاير تمام المغايرة حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، وهو ما أدركته القيادة السعودية الشابة اليوم في تبنيها لمستقبل نعيش بزوغ أولى ثماره على كل المستويات.
وختامًا، لم نبتغ، إجرائيًّا، من هذا التفاوض الكتابي، سوى مباحثة أهم الأسس النظرية-الممارساتية، لأهمية التحول نحو الافتراضي، وإن فاتنا هنا الكثير أيضًا، آملين أن تجد هذه الأطروحة القبول، وأن تحظى بالنقاش المناسب لها، من أجل تطوير آفاق عامة يبنيها الجميع، ونقدر من خلالها على الصعود الفعلي إلى تقاطعات ومسارات وممارسات الافتراض، على أمل أن يتوافر لي الوقت لاحقًا لأناقش معطيات الافتراض والحكومة الرقمية، وسبل تحققها، على المستويات جميعها، لاسيما في الجانب الاقتصادي، والإداري، والقضائي، والتربوي، والمجتمعي قبل كل ذلك، وغيرها من الجوانب.
مجددًا في ختام الختام، لا يطرأ في ذهني مع المغادرة سوى تكرار ما افتتحت به هذه المباحثة بالقول، تأكيدًا: "يمكن لعشرة في المئة من إحدى الودائع أو المنح أو القروض المقدمة لليمن من الجيران والإقليم أو المجتمع الدولي، أن تنشئ يمنًا افتراضيًا من أقصاه إلى أقصاه، بلادًا افتراضية موغلة في الواقعية معًا، تتفاعل مع الإقليم والعالم، وتنظم علاقة اليمني بأخيه اليمني فالعربي، وإخوته في الإنسانية وما بعدها، وإن كان سياسيونا سيجابهوننا بمسلمة جاهزة تؤكد أن البلاد اليمنية، في جزء منها، تقع صنعاء العاصمة التاريخية لليمن في صدارته، مختطفة بيد المليشيات الحوثية الوكيل المحلي للترسانة الإيرانية المفخخة بأوهام الولاية، وخلخلة الإقليم لمصلحة مآرب تخريبية متأصلة في عقلية ولاية الفقيه، ومن ثم فالدولة مسجونة في كهوف المليشيات، والمليشيات هذه لا تكف عن استفزاز المجتمع الدولي في كل الأماكن ومنها البحر الأحمر، كيف تريدون منا القيام بمشروعات افتراضية خيالية؟!
-->