آن أوان الإعلام الرسمي أن ينهض بدور الدولة
في واحدة من أعقد مراحل اليمن المعاصر، تُطرح الأسئلة الجوهرية حول دور الدولة، ليس فقط في إدارة المعركة الميدانية، ولكن في كسب المعركة الأهم: معركة الوعي. هنا، يقف الإعلام الرسمي في قلب هذا التحدي، بصفته المرآة التي تنعكس عليها صورة الدولة، والعصب الذي يصل بين القيادة والشعب، والنافذة التي يطل منها العالم على ما يحدث في اليمن.
لقد شهد الإعلام الرسمي، خلال السنوات الماضية، محاولات جادة واجتهادات شخصية سعت إلى الحفاظ على الحد الأدنى من الحضور، في ظروف شديدة التعقيد والانقسام. تلك المحاولات تستحق التقدير لا من باب المجاملة، بل اعترافًا بجهود الأفراد والمؤسسات الذين عملوا في ظل غياب استراتيجية موحدة، ووسط فوضى إعلامية تتسابق فيها الأجندات وتضيع فيها الرسائل.
غير أن المرحلة الحالية، بما تحمله من تحولات داخلية وخارجية، تفرض إعادة تعريف لمفهوم الإعلام الرسمي، ليس كخدمة حكومية تقليدية، بل كملف سيادي يعكس هيبة الدولة ويقود تعبئة وطنية منظمة. لم يعد من المقبول أن تتحرك منصات الدولة كجزر متباعدة، أو أن تتباين الرسائل الرسمية بين جهة وأخرى، أو أن يغيب التنسيق بين رئاسة الجمهورية والحكومة ووسائل الإعلام الممولة من المال العام.
وغنيٌّ عن القول إن التحدي المالي الذي تواجهه الدولة لا يمكن إنكاره، غير أن اختزال فشل الأداء الإعلامي الرسمي في "ضعف التمويل" هو تبسيط مخل، وتبرير لم يعد صالحًا في زمن تُصنع فيه التأثيرات الكبرى عبر أدوات رقمية منخفضة الكلفة، لكنها عالية الكفاءة والاستراتيجية.
إن المشكلة ليست في غياب الموارد بل في غياب الرؤية، وفي غياب منظومة تخطيط وتنسيق تحوّل هذه الموارد المحدودة إلى أدوات تأثير فعالة. فكم من مؤسسة رسمية تمتلك ميزانية تشغيلية، دون أن نرى لها أثرًا إعلاميًا يُذكر؟! وكم من حساب رسمي لديه مئات الآلاف من المتابعين، لكنه غائب عن التفاعل وصناعة المحتوى؟
إن الإعلام الرسمي ليس قناة تلفزيونية أو وكالة أنباء فحسب؛ بل هو شبكة تكاملية تبدأ من قمة هرم الدولة وتصل إلى أصغر منصة محلية. هو خطاب موحد، وتنسيق مستمر، ورؤية وطنية تُبنى عليها الرسائل وتُرسم عبرها صورة الدولة في الداخل والخارج.
وفي هذا السياق، تبرز الحاجة الملحة لوضع استراتيجية إعلامية وطنية، تتفرع منها سياسات تحريرية موحدة، وتُعاد من خلالها هيكلة منصات الدولة لتكون أكثر فاعلية واتساقًا. كما أن إنشاء مركز رقمي تابع للدولة، مهمته رصد وتفنيد حملات التضليل، يمثل ضرورة وليست ترفًا. وفوق ذلك، فإن الدولة بحاجة إلى شراكة ذكية مع الإعلام المستقل والوطني، باعتبار المعركة الإعلامية اليوم لم تعد شأنًا حكوميًا بحتًا، بل معركة وعي يشترك فيها الجميع.
إنّ ما نطرحه هنا ليس نقدًا للماضي، بل دعوة للبناء على ما تحقق، والانطلاق نحو إعلام رسمي مؤسسي، يواكب اللحظة الوطنية، ويعزز صورة الدولة، ويستعيد ثقة المواطن، ويوفر منصة جامعة تمثل اليمن بكل تنوعه ومسؤولياته وتضحياته.
لقد آن الأوان أن نتحرّك من مرحلة اجتهاد الأفراد إلى مرحلة تمكين المؤسسات، ومن الخطاب المتناثر إلى الخطاب الموحد، ومن التفاعل البطيء إلى الحضور الرقمي الفاعل. فالمعركة لا تنتظر، والدولة القوية تبدأ من إعلام قوي.
-->