في قلب مدينة عدن الصاخبة، وتحديدًا في شوارع الشيخ عثمان المكتظة، تتكشف يوميًا فصول من معاناة لا يلتفت إليها الكثيرون. وبين حرارة لاهبة ورياح عاتية تزيد من وطأة التعب، يجد المارة والعمال أنفسهم يلجأون إلى "البوافي" المنتشرة على الأرصفة بحثًا عن جرعة ماء تروي ظمأهم. لكن المفاجأة الصادمة التي واجهتني أثناء جولتي الأخيرة، تكشف عن كارثة صحية صامتة تهدد حياة هؤلاء البسطاء.
في البداية، ظننت أن ملوحة المياه في أحد الأكشاك كانت مجرد عارض. لكن السؤال لطفل يافع يعمل في بوفيه آخر، كشف المستور بكلمات قليلة حملت في طياتها مرارة الواقع: "الماء مش كوثر من الحنفي". وبإشارة خفيضة، أومأ الطفل نحو عمه، مالك المكان، الذي لم يتردد في الإجابة ببرود يثير القشعريرة: "ايش من كوثر من الحنفي أكيد.. ننزلهم كوثر يتغسلوا به!".
صُدمت! كيف يمكن لمثل هذا الاستهتار بأرواح الناس أن يحدث جهارًا نهارًا؟ وعندما تساءلت عن علم الزبائن بهذه الحقيقة المرة، كانت الإجابة أشد فزعًا: "بيطعموا ويعرفوا!".. هكذا ببساطة، وكأن الأمر مجرد تفصيل ثانوي في يومهم.
فضلت الانسحاب من هذا الحوار المسموم قبل أن يتحول إلى نزاع، لكن الصدمة ظلت تلاحقني. وفي طريقي على متن الحافلة، شاركت تجربتي مع ركاب آخرين، لكن ردود أفعالهم كانت أشد إيلامًا من برود صاحب البوفيه. لا دهشة، لا استنكار، بل استسلام مرير للواقع.
"من زمان واحنا نشرب من الحنفي.. الحافظ لله"، قالها رجل سبعيني تجاعيد وجهه تحكي قصة طويلة من التعب والرضوخ. بينما أضاف آخر، يبدو عليه سمات المثقف والموظف الحكومي: "ما فيش من يظبط أو يحدد معايير السلامة.. كله بالحب.. يتقاسموا شوية فلوس مقابل سلامتنا وسلامة عيالنا".
هنا تكمن الكارثة الحقيقية. فكم من عامل بسيط، أو عابر سبيل أنهكه التعب، يلجأ إلى هذه البوافي والمطاعم ليشرب ماءً ملوثًا دون أدنى علم؟ غالبًا ما يُدس الثلج لإخفاء لون وطعم المياه غير النقية، ويصبح الأمر اعتياديًا في ظل غياب الرقابة والمساءلة.
المثير للقلق أن بحثي المتواضع عبر الإنترنت لم يكشف عن أي تحذيرات واضحة أو تقارير مفصلة حول هذه القضية الخطيرة. هناك إشارات باهتة لغياب الخدمات، لكن لا يوجد تركيز حقيقي على خطورة تزويد الناس بمياه شرب غير صالحة للاستهلاك الآدمي.
ختامًا، أتساءل بمرارة: أين دور الجهات المختصة؟ أين وزارة الصحة وإدارة المجلس المحلي في الشيخ عثمان، التي يبدو أنها مشغولة فقط بتحصيل الإيرادات؟ أين هي لجان الرقابة والتفتيش التي يجب أن تحمي أرواح المواطنين من جشع معدومي الضمير؟
هذا المقال ليس مجرد سرد لتجربة شخصية، بل هو صرخة مدوية، ونداء استغاثة عاجل. إنها دعوة للتحرك قبل أن تستفحل الكارثة وتطال آثارها الصحية أجيالًا قادمة. لقد أديت واجبي بالتنبيه، ويبقى الدور الآن على عاتق المسؤولين والمعنيين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
-->