لا ألتفت كثيرًا إلى التسريبات المتكررة بشأن احتمال إقالة الدكتور أحمد عوض بن مبارك من رئاسة الحكومة، فقد باتت مثل هذه الشائعات سمة مألوفة في المشهد السياسي اليمني. ما يستحق الوقوف عنده، هو استثمار هذه المناسبة لتسليط الضوء على جوهر الأزمة الكامنة في بنية السلطة الشرعية، أزمة لا تتعلق بالأفراد بقدر ما تكمن في منظومة عاجزة عن الإنتاج والتجديد.
لقد دلّت التجربة السياسية لليمن، خلال أكثر من خمسة عشر عامًا، أن تغيير الوجوه لم يكن كافيًا لوقف الانهيار أو معالجة التدهور، إذ ما تزال المنظومة نفسها تعيد إنتاج الفشل بأدوات جديدة وشخصيات متعاقبة، دون أي تغيير يُذكر في السياسات أو آليات اتخاذ القرار.
فرغم المبادرة الخليجية، وما أعقبها من اتفاقات مثل اتفاق الرياض والمشاورات اليمنية–اليمنية وإعلان نقل السلطة، إلا أن النخب ذاتها ما تزال تتبادل المواقع بذهنية جامدة، بعيدة عن أي مراجعة نقدية أو تطوير لأدائها. وعليه، فإن الأزمة ليست في رئيس الحكومة، بل في التشتت المؤسسي، وغياب القرار، وفساد البنية، وتغوّل المحاصصة، وانعدام المساءلة.
إن الدعوات إلى إقالة رئيس الوزراء قد تنطلق من وجع حقيقي بسبب ما تعانيه عدن والمناطق المحررة من أزمات اقتصادية وخدمية، إلا أن التركيز على رأس الحكومة دون النظر إلى السياق الأشمل، هو اختزال مخل، يُجنّب المنظومة القائمة مسؤوليتها الكبرى عن هذا الانهيار المتراكم.
وإذا طُرحت أسماء بديلة، كوزير المالية الاستاذ سالم بن بريك، فإن التساؤلات تتكاثر: أليس هو أحد الفاعلين في الإدارة ذاتها منذ سنوات؟ أين هي بصماته في وقف انهيار العملة، أو ضبط الإيرادات، أو معالجة الدين العام؟ أم أن المطلوب فقط تبديل المقاعد دون تغيير السياسات؟
أما الدكتور بن مبارك، فقد عرفته منذ دراستنا في بغداد، حيث كان ناشطًا طلابيًا لافتًا، وتدرّج لاحقًا في عدد من المواقع الهامة، من بينها: الأمين العام لمؤتمر الحوار، مدير مكتب رئاسة الجمهورية، سفير اليمن لدى واشنطن، وزير الخارجية، وأخيرًا رئيس الوزراء. ورغم الجهود التي بذلها، إلا أن أداء حكومته ظل محكومًا بتداخل الصلاحيات وغياب الرؤية الموحدة، ولم يُتح له تنفيذ برنامج إصلاحي حقيقي، لا سيما في ظل عدم نيل حكومته لثقة مجلس النواب أو مناقشة موازنتها.
إن تحميله وحده مسؤولية الإخفاق مجافٍ للعدل، خاصة حين يتحوّل إلى كبش فداء يُقدَّم لإرضاء بعض الأطراف ، بينما يُترك الفاعلون الحقيقيون خلف الستار بلا مساءلة. الأسوأ من ذلك، أن نلاحظ استهدافًا ممنهجًا لشخصيات انتمت لثورة فبراير المجيدة، بينما يُعاد تمكين خصومها وكأنّ الانتماء لتلك الثورة أصبح جريمة تستوجب الإقصاء.
إذا كان لا بد من التغيير، فلنعد إلى روح المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية، لا أن ننقلب عليها باسم "الإصلاح". من غير المنطقي أن يغادر رئيس تلو آخر (هادي، باسندوة، بحاح، بن دغر، معين، بن مبارك)، وتظل السياسات على حالها، دون أي تغيير في البنية العميقة لصناعة القرار.
إن الحل يبدأ بإصلاح المنظومة، لا بترقيعها. بتفكيك شبكة المصالح، لا تدويرها. باستعادة القرار الوطني، لا تسليمه إلى قوى المحاصصة والمصالح الضيقة.
مقترحات للإصلاح البنيوي:
1. إعادة هيكلة الحكومة على أساس الكفاءة والنزاهة، لا المحاصصة المناطقية أو الحزبية.
2. فصل السلطات وتعزيز استقلال المؤسسات الرقابية، لضمان الشفافية والمساءلة.
3. إطلاق برنامج إنقاذ اقتصادي وطني بالشراكة مع خبراء محليين ودوليين، وفق أولويات واضحة ومعلنة.
4. العودة إلى المسار الدستوري عبر تفعيل مؤسسات الدولة: مجلس النواب، مجلس الشورى، الجهاز المركزي للرقابة، والقضاء، وتفعيل هيئة مكافحة الفساد.
5. تعزيز الشفافية في إدارة الموارد، وربط الموازنة بالأداء والنتائج.
6. دعم الشرعية كمؤسسة وطنية تمثل الجميع، لا مجرد تكتل نفوذ أو مراكز قوى متصارعة.
ختامًا...
الوجوه قد تتغيّر، لكن الخلل سيبقى ما لم يُجتثّ من جذوره. والتاريخ لن يغفر لمن أضاع الفرص وعمّق الفشل. المطلوب ليس تغيير الأسماء، بل إصلاح البنية، واستعادة الثقة، وصياغة عقد وطني جديد يضع الإنسان اليمني في قلب المعادلة، ويعيد للدولة اعتبارها، وللمواطن كرامته.
-->