مع تولي بعض شخصيات تعز اليوم مقاليد بعض المسؤوليات في الدولة؛ سواء في المجلس الرئاسي، أو مجلس النواب، أو رئاسة الوزراء، ومع أن الوضع اليمني عموماً لا يسر صديقاً، تعمقت هذه النظرة وزِيد من التحريض السلبي عليها والإساءة لها والنظرة السوداوية تجاه أبنائها، باعتبار من تولى هذه المسؤوليات أقصى غيره من المناطق الأخرى، وهو أمر غير صحيح البتة لمن نظر إليه بعين الإنصاف والواقعية.
يتواصل بي كثير من الزملاء من مناطق يمنية مختلفة يشكون تعرضهم للتهميش والإقصاء، رغم أنهم مسؤولون في مناصب عليا، ويا للعجب، وهم في هذه المناصب ويشكون! وأنهم يعانون من معاملة عنصرية في هذه المؤسسات، محملين تعز وأبناءها ومسؤوليها "معاملة عنصرية"، كما قالوا!
وأجدني هنا مضطراً للكتابة عنها، ليس دفاعاً عن أي من المسؤولين المذكورين؛ فلم يكن حالي الشخصي بأفضل حال من بقية الزملاء؛ بل هم أفضل حالاً مني بمئات المرات، وهم يعلمون كل العلم ما أعانيه بشكل شخصي من التهميش والإقصاء، وربما كنت أكثر من دفع الثمن بين الجميع، خاصة وقد كانت القرارات والتعيينات والتوظيفات والأموال توزع دون رقيب أو حسيب، وكنت آخر شخص من الإعلاميين المهجّرين توظيفاً، وأكثرهم تهميشاً رغم حسباني على شخصيات تعزية في المناصب المذكورة إلا أنها كانت أكثر من صدتني عن حساباتها، رغم أني دون مبالغة أكثر من قدم توعية بالمشروع الإمامي الحوثي من وقت مبكر قبل الجميع المتصدرين اليوم، ولي انتاجاتي الفكرية المختلفة لا تقل عن ستة كتب في الإمامة وحدها، وما أدفعه من أثمانٍ من الجميع إلا لهذا السبب، ولم أستطع طباعة الكثير منها، بينما كان الأصل أن تتبنى هذه الأعمال كل جهة تقول إنها تقف مع الشرعية ضد المشروع الكهنوتي الإمامي، ليس مِنّة على أحد، فهذا مبدأي الذي اعتنقته منذ وقت مبكر، وطريقي الذي سلكته في تعرية الإمامة ومشاريعها وجرائمها، ولن أحيد عنه مهما كانت الأثمان والتضحيات.
إن أهم ملاحظة وجدتها في مسؤولي تعز في مؤسسات الدولة، منذ التحاقي بالوظيفة العامة قبل ثلاثين عاماً وحتى اليوم، وكأنها قاسم مشترك عند الجميع، أنهم ليسوا عنصريين ولا إقصائيين إلا لأصحابهم خشية أن يتهموا بالتحيز والتعزنة والعنصرية، بل يسعون بكل جهد لتمكين غيرهم في المناصب ومحاربة بعضهم البعض، وإغلاق كل المداخل والفرص في وجه بعضهم بعكس الآخرين تماماً، ولذلك اليوم القرارات الحكومية -في ظل مسؤولياتهم- بالجملة لغيرهم، مقصين بها أبناء جلدتهم، والنماذج كثيرة في كل المؤسسات، وإذا أردنا أن نضرب مثلاً، فوزارة الإعلام اليوم عشرات القرارات (المناصبية) التي صدرت بين وكيل ومستشار ومدير عام ورئيس مؤسسة، وبسرعة البرق، كانت من نصيب بقية المحافظات ليس بينها قرار واحد لموظف من تعز، بينما كل ما يخص أبناء تعز من قرارات معطلة ومحتجزة في ثنايا وطوايا ملفات سوداوية داخل خزانة مظلمة محكمة الإغلاق، وفي أعماق دهاليز أشد ظلاماً لبعض المكاتب والمؤسسات، منذ خمس سنوات على الأقل، فكيف يُتهم المسؤولون من أبناء تعز بالعنصرية؟!!
أدرك -كل الإدراك- أن جميع اليمنيين يعانون، وجميع المناطق اليمنية تعاني؛ فكلنا في واقع احتلال، ودولة صُورية غير مُمَكَّنة، ولكن تعز هي أشد المناطق اليمنية معاناة ودفعاً للثمن في هذه الظروف؛ لأنها سند الجمهورية.. خذلت حتى من أبنائها الذين يشار إليهم دائماً؛ فأكثر شهداء الجمهورية اليوم من محافظة تعز بسبب التركيز الإرهابي الحوثي العفاشي عليها منذ بداية ما قبل الإنقلاب، وهي المحافظة الوحيدة التي تحاصر من كافة الاتجاهات والمكونات؛ منع عنها الماء والدواء والغذاء، ولو استطاعوا أن يمنعوا عنها الهواء الذي يتنفسه أبناء تعز لفعلوا، والجميع يعلم ويشاهد كيف كان التّعزِّيّون يُهرِّبون اسطوانات الأوكسجين والغذاء والغاز والدواء تهريباً عبر الأكتاف في قمم الجبال الشاهقة، وعبر الحمير والجمال والوسائل البدائية الأولى، وكيف كانت تنهال الصواريخ والقذائف على الأحياء المكتظة بالسكان، وكيف ارتكبت المجازر بحق النساء والأطفال والشيوخ، وحتى قصف المستشفيات والمساجد، وكيف فخخت حتى البيوت والحارات ومداخل الأحياء والأزقة، وكانت أكثر المحافظات شهداء وجرحى ومعاقين وقتلاً بالألغام، وكذلك هي أكثر المحافظات دماراً ونهباً للأموال وتفجيراً للبيوت، ومع كل ذلك لم يفعل لها أبناؤها المسؤولون شيئاً، وخاصة رئيس الوزراء معين عبدالملك الذي كان بيده كل شيء باعتباره المسؤول التنفيذي الأول، وظلت عرضة للمساومات والابتزازات المحلية والإقليمية والدولية، وكيف شطرت أجزاءً بين الدول والمكونات الداخلية، وكيف تسلط عليها القناصة، وأشد مأساة من كل ذلك كان الخذلان والتعامي عن أحوالها هو الأشد وقعاً وإيلاماً من العدوان الحوثي العفاشي نفسه!
أسجل هذا للتاريخ وللأجيال القادمة حتى لا تنسى هذه الأحداث كمؤرخ أولاً، وكمعني ومعاني وصحفي ومتابع ومراقب من أبناء المحافظة ثانياً، لم يكن الخذلان بفعل العجز للدولة، أبداً، بل لقد كان الخذلان في عدم الاهتمام حتى من الجميع ممن يفترض بهم أنهم في الشرعية اليمنية التي تحارب الانقلاب الحوثي ومن يمت إليها بصلة من المسؤولين!
لقد كانت أسوأ نقطة في الخذلان أننا كإعلاميين، حينما كان الإرهاب الحوثي العفاشي يقومون بأشد أنواع الجرائم الإرهابية والتنكيل بحق أبناء تعز باعتبارهم إرهابيين ودواعش، كما في خطاباتهم، كان المحسوبون عليهم في الشرعية يخذلوننا ويمارسون التثبيط بحقها والتعاطف معها، ويقفون ضد كل الحملات التوعوية بهذه الجرائم، ومن أكثر الشماتات التي كانت تؤلمنا أكثر من قذائف الحوثي وصالح كانت توجه ضدنا قذائف الشماتات على سبيل (تستاهل تعز، هم من جابوه لأنفسهم، هم أصحاب النثرة، من قال لهم يقاوموا؟!...وهم وهم وهم)، وكان كثير من مسؤولي الشرعية يُخَذِّل عن التضامن مع تعز، وليس فقط ممتنعاً عن المشاركة في حملات التضامن والتوعية، خاصة من بعض المحافظات الشمالية، ويصدرون توجيهات بذلك لزملاء نعرفهم وهم معنا!
التباكي ليس هو الحل بكل تأكيد؛ لكننا نصف واقعاً مريراً فقط، يتحمله في الدرجة الأولى أبناء تعز من النخبة التي تصدرت المشهد ولا شك، وممن يستطيع تقديم شيء سواء بالسلاح، أو بالمواقف السياسية، بالرأي، بالقلم، بالمال، بالتجارة، بالتوعية، بالإصلاح بين مكوناتها، بمساعدتها غذائياً، برفع قيمها، بالتعريف بمعاناتها، بالتصدي للشائعات المغرضة، بالكف عن التحريض عنها، بإيقاف الخلافات البينية، بتوحيد صفوفها، بكف نشر السلبية عنها، بل بالقتال في صفها، بدعم الجيش، بدعم المقاومة، بإضاءة شمعة وسط كل ذلك الظلام الدامس بدلاً من لعنه.
أبناؤها لا يُعفَون من المسؤولية؛ بل يتحملون كل المسؤولية قبل غيرهم، باعتبارهم جعلوا من أنفسهم مطية للآخرين؛ فانحنوا للركوب، ولا يستطيع أحد التسلق على ظهرك للصعود عليك ما لم تحن ظهرك له وتساعده على ذلك، فإذا كان رئيس مجلس النواب بكله يذهب للبحث عن الفتات مما يجود به طارق دون الخروج بمشاريع تخدم المحافظة والمقاومة، وكذلك محافظها، والدور السلبي الذي لعبه رئيس الوزراء معين عبدالملك في تكريس نظرة الانبطاح والسلبية وعدم قوة الشخصية تأكيداً لشخصية (عبده مرحبا)؛ فما الفائدة من توليهم تلك المسؤوليات إذاً؟!
في ظل كل الجرائم والإجرام بحق تعز عوملت المحافظة من قبل الشرعية والمكونات معاملة المنبوذ في المجتمع، في ظل جراحها النازفة، وكأنها سياسة عقابية جماعية؛ لم تعاقب في الظروف العادية وحسب، بل عوقبت وهي تخوض معركة اليمن المقدسة، بل وأثبتت الأيام أنها معركة العالم بشكل عام، ضد الإمامة والدفاع عن نفسها وعن الجمهورية والشرعية والأمن العالمي، وهو أشد أنواع اللؤم يتخذ بحقها يستغله القادر في أكثر أوقاتها ضعفاً، وعند منعطفها الأخطر، وهي تحتضر ليتم الإجهاز عليها وتذكيتها؛ فالمقاتل بلا سلاح ولا ذخيرة، وكل خمسة مقاومين يتناوبون على بندقية، وبالكاد يجدون ما يسد رمقهم في متارسهم، وترك جرحاها وأهملوا حتى توفي الكثير منهم وتعفنت جراحهم، وبعد التحرير الجزئي وبينما الشرعية تقوم على قدمها اعتمد للجندي راتب ستين ألف ريال يمني (أقل من 100 ريال سعودي) يأتي كل ثلاثة أشهر؛ أي مصروف يوم عند بعض الأشخاص في مكان آخر، بينما في بقية المحافظات المحررة وفي الساحل يتسلم الجندي ألف ريال سعودي، ومع ذلك كل ذلك الخذلان ما زالت السهام تصوب تجاههم!
كذلك الحال في المجال التربوي، وفي المجال الصحي، وبقية المجالات، وكأنها اللعنة حلت على تعز، رغم أنها رافعة الجمهورية، وآخر من يحافظ على الراية من السقوط.
تم استقطاب وتسريب أولئك المقاتلين في جبهات تعز لأنهم خُذلوا، والتحقوا بجبهات ومكونات أخرى، وهو تفريغ ممنهج ومتعمد لجبهات المحافظة حتى تكون عرضة للسقوط في أية هجمة شرسة، ولكن ظل يحرسها رجال مضحون بكل شيء، مستبسلون، مؤمنون أشد الإيمان بوطنهم وعقيدتهم ومحافظتهم وحق عيش أبنائهم الكريم مستقبلاً حتى لا يُستعبدوا أو يُذَلوا، ولذلك دائماً أطلق عليهم رجال جيل الصحابة.
إن أهم ما يحرص عليه السياسي، أو رجل السلطة، أو القيادي في الحزب، أو أي رجل شريف يشغل منصباً معيناً في الدولة، أو الجندي في مترسه، والصحفي في عمله، هو تاريخه السياسي -بعد أن يحقق طموحاته في السلطة والثروة والدولة- أن تكون سيرته حسنة، وصفحته بيضاء ناصعة، إن كان فعلاً يحرص على ذلك، وأن لا يتهم في وطنيته، ولا في نزاهته، وأن يحقق مكسباً معيناً لشعبه وجمهوره. أن يتحاشى –بكل ما أوتي من قوة- أن لا يسجله التاريخ بين أصحاب المواقف السلبية، أو ممن تفككت الدولة في عهدهم، أو باعوا شعبهم لغيرهم، أو تعاونوا مع احتلال ما، وهي أكبر غاية يتمناها السياسي والرجل الشريف؛ لأنها ستبقى بعد رحيله أو وفاته إلى يوم القيامة؛ إما ملعوناً منبوذاً في نظر الأجيال، وإما بطلاً وقدوة يُدعى له في كل موطن وعصر وجيل، ويقتدى بمواقفه وتذكره أنصع صفحات التاريخ.
لن تُجدي الهبات ولا كتائب المُلَمعين، ولا المزورون للتاريخ والأحداث؛ فهؤلاء أول من ينقلب مع مصالحهم، وأول من يسلطون أقلامهم على الصاحب القديم باحثين عن صاحب جديد؛ فالغربلة تحصل في كل جيل، والتمحيص والمراقبة تأتي حتى ممن تم الدفع لهم وشراء أقلامهم أحياناً، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح، خاصةً مع مناهج البحث المتطورة، وأدوات العلم الحديثة؛ ليس هناك ما يمكن تزويره، فكم رأينا من الذين تم الدفع لهم أموالاً سخية لتلميع ومدح قادة سياسيين تنكروا لهم وعادوا يشتمونهم بمجرد خروجهم من السلطة، وانتزعت الخزانة من أيديهم.
وذهب الجميع إلى مصائرهم وصاروا نكرة اليوم، وبقيت أحداث التاريخ وصور الجرائم هي البارزة، ومفتعلوها ذهبوا إما إلى طي النسيان، إلى آلة اللعن التي لا تنتهي!
لن يتم ذكر المسؤول الفلاني بما ترك خلفه من ثروة أو منصب أو أولاد أو أصحاب أو أتباع، بل ما يتم ذكره بعد الرحيل هو ماذا حقق وماذا أنجز، وأين فرّط وقصّر، ولماذا لم ينجز شيئاً لشعبه؟!
...يتبع
-->