لم يُكتب عن أحد من الناس ما كتب عن نبي الإسلام عليه السلام، كل مراحل حياته سُجلت، وتم نقل كل حالاته وجميع أوضاعه: علاقاته الأسرية، والاجتماعية والسياسية، حروبه ومعاركه، أسفاره وتنقلاته، نومه ويقظته، أكله وشربه، صلاته ونسكه، انتصاراته وانكساراته، ضحكه وبكاؤه، حتى وهو في غرفة نومه تم نقل حالاته، ومع كل تلك الأسفار الضخمة التي سجلت كل مراحل حياته، إلا أن سيرته كانت مضرب المثل لرجل كرس حياته كلها لما آمن به من رسالة، وكان إيمانه العجيب بها باعثاً لإعجاب الخصم قبل الصديق.
يتيم فقير، راعي غنم بسيط، يحلب الشاة، ويخصف النعل، وينقل الحطب لسيدات مكة، ويساعد في أعمال المنزل. لم يكن من شيوخ القبيلة، ولا كبرائها أو أصحاب الثروات، بل ورد القرآن الكريم اعتراض قومه على نبوته لأنه لم يكن من عظماء القريتين، حسب المعايير المادية: "وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"، وورد: "ووجدك عائلاً فأغنى"، ومع ذلك لم تمض إلا سنوات معدودة حتى كان يتراسل مع كسرى وقيصر وملوك وحكام العالم القديم، وبعدها وصلت جيوشه الشام وأطراف العراق، ولم تمض إلا عقود قليلة حتى دخلت جيوشه إسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا غرباً، ودخلت حدود الصين في الشرق، فيما يشبه المعجزة.
ثم إن المعجزة ليست مجرد "الفتح العسكري" ، فالمغول - مثلاً - فتحوا بلداناً واسعة في فترات قياسية، ولكن فتحهم اندثر لينكفئوا إلى صحاراهم، عدا أولئك الذين أسلموا وحكموا القارة الهندية. معجزة النبي تكمن في "فتحه الروحي"، إذ أن معظم الأقاليم التي دخلها دينه ظلت عليه إلى اليوم، بل إن أكبر بلدان العالم الإسلامي في شرق آسيا دخلها دينه دون جيوش.
وكان لا بد لرسالته، ولفتحه أن يدوم، لأنه عندما بلغ أوج قوته "صام" عن الدنيا، ولم ينغمس فيها كما فعل معظم من وصل إلى السلطة والثروة عبر التاريخ، بل إنه وهو الذي توسعت سيطرته ظل يلاعب الأطفال في أزقة مدينته، ويطعم الجياع، ويكون آخر من يشرب من العطشى، وكان يتعهد الأرامل، ويذهب إلى الحقول، ويغشى الأسواق، ويتفقد أحوال شعبه، ويربي أصحابه، وينصرف عن ملذات الدنيا التي تحصل عليها، في قصة كفاح بدأت بميل محمد عليه السلام إلى اعتزال مجتمعه والشعور بغربة روحه عن سياقه الاجتماعي والزماني والمكاني، والذهاب للجبال، والخروج للوديان، والانقطاع عن العالم فترات ينفرد فيها بنفسه، في خلوات أنضجت روحه، وهيأته لرعشة القلب التي على إثرها اهتز العالم الخارجي وما يزال إلى اليوم.
وفي رمضان دخل نبي الإسلام محمد عليه السلام كهفاً بأحد جبال مكة، وخرج يردد "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم". من يسمع هذه العبارة يشعر بشيء من جلال النص وقداسة المعنى الكامن في "اقرأ"، اللفظ المنفتح على "القراءة" بدلالاتها وإيحاءاتها العميقة، والكامن في "القلم"، اللفظ المنفتح على "الكتابة" بدلالاتها وإيحاءاتها العميقة، حيث تتلازم القراءة والكتابة تلازم "العلم والخلق" في دين النبي الجديد.
كان غار حراء فجوة في الجبل على ارتفاع أكثر من 600 متر والجبل يبعد عن مكة قرابة أربعة كيلومترات، إلى الشرق منها، وكان النبي وهو في الغار يرى مكة من هذا الارتفاع الذي يهيئ لرؤية العالم بعين أخرى، وتأمله ببصيرة قلب يتوثب للانفتاح على دفق جديد لا عهد له به. كان موضعه بين السماء والأرض يتيح له الفرصة لصقل روحه لتقبل الحدث الجلل أو "القول الثقيل"، كما جاء في القرآن الكريم.
وفي رمضان حزم النبي متاعه وتوجه إلى الغار الذي يختلي فيه بنفسه، ويتأمل في الخلق ويبحث عن الخالق الحقيقي الذي لم يره في أصنام قومه، حيث كان قبل بعثته أحد القلائل الذين "تحنثوا" حتى بلغوا مرحلة "الحنفية"، وهي ديانة إبراهيم الذي سيطلق عليه القرآن أب المسلمين: "ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين".
وفي ليلة من الليالي شعر النبي بتلك الرجفة التي ترعش القلوب التي أصبحت شفافة لدرجة اختراق الحجب، والوصول إلى عالم آخر يكمن وراء هذا العالم المرئي، حيث يحدث أن تكون لدى قلوب البشر القدرة على تلقي الفيوضات الإلهية، إذا وصلت مرحلة الطهارة التي تكون عليها قلوب الأنبياء.
كانت رعشة القلب صاعقة للكيان البشري، وكانت كافية لنفض ما في القلب من بقايا مادية، لكي يخلص تماماً للتلقي، وكانت حيرة النبي بعد التلقي كبيرة، كانت أكبر دليل على صدقه، إذ أنه خرج من الغار في حالة رعب، بعد أن "أجهده" ما ألم بقلبه من فيض، يقول كتاب سيرته إنه كان قوياً لدرجة أن النبي ظل فترة يغشى عليه كلما دهمه.
-->