اليوم، نشرت الأخبار أن المحكمة أصدرت حكمًا طريف على شخص بعد أن تجاوز الحواجز الأمنية المحيطة بالمستشار الألماني، متجاوزًا السيارات المرافقة والحراسة، وتمكن من الوصول إلى المستشار واحتضانه. كل ذلك حدث بسرعة كبيرة لدرجة أن الحراس لم يلاحظوا الأمر. ومن الواضح أن هذا التصرف كان قد يؤدي إلى أي شيء خطير للمستشار لو كانت نوايا الشخص سيئة.
لكن الغريب في الأمر هو أن العقوبة، التي فرضتها المحكمة عليه وتسبيبها، وهي غرامة قدرها 4500 يورو، لم تكن بسبب احتمال تعرض حياة المستشار للخطر أو اختراقه الحراسة، وإنما لأنه دخل بسيارته منطقة محظورة داخل مطار فرانكفورت، بمعنى الامور البقية للقاضي لم تكن ذو معنى بعكس الحكام في العالم الثالث. هنا تظاهر بأن سيارته جزء من موكب المستشار، رغم أنه لم يكن ضمن الموكب الرسمي ودخل بالسيارة مناطق غير مسموحة.
هذه الحادثة ذكرتني بواقعة طريفة حدثت لي قبل حوالي عشرين عامًا. كنت حينها ناشطًا في المدينة، وأعمل كعضو في المجلس الاستشاري المحلي، وممثلًا للأجانب في الجامعة، كما كنت مؤسسًا ورئيسًا للجمعية الإسلامية لمسلمي المدينة هنا. باختصار، كنت شخصية اشغل نفسي بأمور الشأن العام ونشطة في المجتمع المحلي في المدينة.
في ذلك الوقت، وصلتني دعوة من الحكومة في الولاية لحضور لقاء الدولة مع المستشارة أنجيلا ميركل وايضا المستشار شرودر وغيره من الحكومة في العاصمة مجدبورج. بالطبع لم أقصر في الاستعداد، لكن لم أنتبه إلى أن الدعوة كانت صفراء اللون، واتضح ان هناك ألوان مختلفة تعبر عن تصنيف الضيوف ومناطق جلساتهم. الألوان كانت تحدد القرب من المستشارة ورئيس الدولة والصفوف الأولى والحكومة بناءً على أهمية الشخصيات التي تواجدت. اعتقدت انا أن البطاقة الصفراء تعني أنني سأجلس في الصفوف الخلفية مع الأساتذة والقيادات الجامعية والسلطة المحلية فقط لنصفق وبعدها يقولوا مع السلامة، بمعنى لا اكل ولا شيء. في ذلك الوقت، كنت قد انتهيت تقريبًا من الدكتوراه، وكنت أقرب إلى مرتبة طالب أكثر من كوني أستاذًا او دكتور ولازلت طالب في سلوكي ومنهجي ونشاطي.
المهم، كان اللقاء مهمًا للغاية وبحضور قيادات ألمانيا من كل الولايات ونقل تلفزيوني للمراسيم، لأنه كان لقاء رسمي على مستوى البلد. استيقظت صباحًا، رتبت نفسي، وارتديت بدلة مرتبة ورابطة عنق ومعطفًا ذو جودة عالية اطلق على البدلات عدة النصب والاحتيال، وهذّبت لحيتي ثم ذهبت. عندما وصلت، كان هناك حشد جماهيري كبير من الناس ينتظرون وصول المستشارة وحكومتها والشخصيات الهامة، وكانت هناك حواجز حديدية متعددة.
لم أتردد، وبكل ثقة اتخذت طريقي أمام الشرطة والأمن حتى وصلت إلى الحاجز الأول ولم اعطي للامور اي اهمية او اتحدث وانما اشارة تكفي. هناك كانت موظفات يشبهن مضيفات الطيران يطيرن عقل العابد الناسك كما نقول، مهمة كل واحدة ترافق الضيف الى منطقة معينة بمعنى برتوكولات. وبصراحة عني لم تسألني من أنا ولم تطلب بطاقتي، بل حيّتني بتحية محترمة وابتسامة واسعة نسيت من أنا، وقالت لي بالإنجليزية "تفضل سيادتكم، اتبعني". بصراحة كان ممكن تتحدث بأي لغة كنت سوف افهمها وقتها شباب وحق مغامرات، لم أتحدث ولم أثرثر، فقط تبعتها بكل هدوء.
أخذتني إلى النقطة الثانية وسلمتني لموظفة المراسيم الداخلية وهذه طلعت اجمل وابتسامتها افضل، وقالت لها الاولى "معي سفير درجة اولى "، ما يعني أنه تم تصنيفى على الفور بناءً على هيئتي ومظهري بأنني سفير دولة مهمة. وبصراحة، لم أهتم ولم أعلق لأنهم لم يسألوا عن نوع الدعوة وهذه مش مشكلتي لانهن تكلمن مع بعض الماني وقلت لنفسي لم يطلبوا مني اي معلومة عني بمعنى لا داعي لثرثرة، والسفير محسوب عليه كل كلمة.
موظفة المراسيم أخذتني إلى الداخل، وهناك وجدت الأساتذة الكبار حقي وقيادات الجامعة في الصفوف الخلفية وقلت اكيد الكل بيقول انت "ورانا ورانا"، بينما أنا كنت مع موظفي المراسيم الذين كانوا يرافقونني إلى مقعدي في الصف الامامي والذي كان قريبًا من المستشارة. بجانبي كان يجلس سفير باكستان والسفير الأمريكي، وفي الجانب الآخر سفير أفريقي كبير في السن، وكان لطيفًا ويبدو أنه يريد أن يعرف أي دولة أمثل هنا.
وبصراحة كرر السؤال مرتين من لطافته قلت له "أمثل فلتر راتنوا هنا" وحتى لا اكذب، وهو اسم عنوان بيتي "فلتر راتنوا" بمعنى الحي الذي أسكن فيه. السفير هز رأسه، وكأنه عرف الدولة التي أمثلها واحتمال يريد أن يبني علاقة وتعاون مع بلده، بينما كنت أقصد فقط الحي الذي أعيش فيه. المهم قلت في نفسي هذا يشبه سفراء العرب الذين يتم تعينهم في الغرب وهم لايعرفون اين الله حطهم او ماهي مهمتهم.
بعد انتهاء الكلمات للمستشارة والحكومة في الولاية، كانت المراسيم امامنا أن السفراء سيتم نقلهم إلى حفل خاص وغداء في مكان اخر، حيث تم تخصيص حافلات لذلك. وبصراحة قلت وماله لو يشتوا مني اوقف حتى امام مجلس الامن كسفير لن اقصر. انتقلنا إلى الحفل الذي كان مليئًا بشخصيات الحكومة والدبلوماسيين وهات ياهدرة . الجميع كان يتقدم إليّ لأخذ بطاقتي أو يسألني عن الدولة التي أمثلها، احيانا كنت اتجنب او احاول قدر الامكان اجعل الحديث عام. وهكذا، من الساعة العاشرة صباحًا حتى الثالثة عصرًا، كنت "سفيرًا" على غير توقع، وحتى مظهري كان يبدو وكأنني كنت أكتب كتابًا عن السفراء لمدة خمس ساعات. اذكر هنا وزير في حكومة بحاح قال كنت وزير لمدة 72 يوم، فقلت في نفسي، وانا امام الالمان وانا طالب كنت سفير لمدة خمس ساعات.
-->