الدعوات لإعادة المشيخات: محاولة للمزيد من تفكيك الجنوب

د. فائزة عبدالرقيب
السبت ، ٠٥ ابريل ٢٠٢٥ الساعة ٠٦:١٥ مساءً

 

في ظل اضطراب المشهد السياسي اليمني وتزايد التوترات، تتعالى في الآونة الأخيرة أصوات تدعو إلى إعادة دور السلاطين والمشايخ، وهي دعوات تبدو في ظاهرها استعادة لجزء من التاريخ، لكنها في جوهرها تعكس صراعًا خفيًا بين ماضٍ مضى وحاضر يحاول أن يرسخ نفسه وسط تحديات متشابكة، دعوات تعود لتفتح أبوابًا أُغلقت منذ عقود، وتستحضر حسابات سياسية قديمة تقف خلفها تيارات تبحث عن موطئ قدم في مشهد يتغير باستمرار. أصحاب هذا الطرح يتكئون على ما يسمونه "الشرعية التاريخية"، دون مراعاة للتحولات العميقة في وعي الجنوبيين ولا للثمن الباهظ الذي دُفع من اجل الخروج من ذلك الماضي، وحاضر يحاول الحفاظ على تماسكه وسط عواصف التشظي والانقسام.  

ان انصار هذه الدعوات يتجاهلون بأن تلك المشيخات والسلطنات التي ينادون بعودتها، لم تكن سوى ادوات لتكريس التجزئة والانقسام وتمزيق النسيج السياسي والاجتماعي والجهل قبل ان تُطوى صفحتها بثورة الرابع عشر من أكتوبر التي دشّنت مرحلة جديدة لتعيد للجنوب كرامته السياسية وتوحده تحت راية دولة مستقلة حلم بها المناضلون وناضلوا من أجلها.   

 

عقب الاستقلال، عرف الجنوب تجربة فريدة بطموحاتها مع انها لم تكن خالية من الأخطاء لكنها حملت ملامح مشروع وطني تحرري حاول رغم الصعوبات أن يضع الإنسان الجنوبي على طريق الكرامة ففتح أبواب التعليم والرعاية الصحية للجميع وفرض معادلات جديدة في الأمن والاستقرار كانت غائبة عن مشهد ما قبل الثورة. المفارقة أن كثيرًا من الأصوات التي تطالب اليوم بإعادة المشيخات هم ممن نشأوا وتعلموا في ظل دولة الجنوب واستفادوا من منجزاتها بل وكانوا من المدافعين الشرسين عن مبادئ الثورة وأهدافها. لقد كانوا بالأمس جزءًا من مشروع وطني تحرري واليوم يتصدرون مشهدًا مناقضًا تمامًا، يطالبون بإعادة انظمة تجاوزها بل لفظها التاريخ. هذا التحول يثير الكثير من الأسئلة عن الدوافع الحقيقية وراءه وعن صدقية هذا التحول في القناعات ام انه مجرد اصطفاف ظرفي تفرضه لحظة سياسية مرتبكة او مصالح ضيقة ترتدي لبوس التراث والتاريخ، ام ان ما نشهده ليس إلا تصفية حسابات سياسية مع مراحل معينة من التاريخ؟ وهل يدرك هؤلاء ان تلك الدعوات في حقيقتها تنطوي على إدانة واضحة لتاريخ ثوري طويل دفع ثمنه الآلاف من الشهداء والرموز الوطنية من مختلف المناطق؟

 

قد يقول البعض إن بين اولئك السلاطين والمشايخ من وقف مع الثورة وساهم في دعمها وهذا صحيح، لكن ذلك لا يمحو حقيقة ان مناطقهم عانت من الأمية والمرض والفقر وغياب أي شكل من أشكال التنمية، وهو ما يجعل الطرح الحالي خطيرًا لا لكونه حنينًا إلى الماضي بل لانه يتجاهل الواقع الراهن بكل تعقيداته ويتغافل عن التحديات التي تواجه الجنوب في حاضره ومستقبله.

 

إعادة إنتاج الماضي، بكل ما يحمله من رموز ومفاهيم، لا يمكن أن يكون حلاً، بل يشكل تهديدًا حقيقيًا للمكتسبات الوطنية التي تحققت رغم الصراعات والانكسارات، خاصة تلك التي تعثرت كثيرًا بعد حرب 1994، وما تبعها من تحولات اضعفت الجنوب واعادت ترتيب موازين القوى فيه، لكن الشعوب لا تبني مستقبلها باستحضار الانظمة القديمة بل بقراءة ماضيها قراءة نقدية تُمكّنها من تجاوز أخطاء الأمس والتطلع إلى غدٍ أكثر عدالة. 

 

لقد كان النضال من أجل الحرية والاستقلال مشروعًا تحرريًا كبيرًا، انبثق من رؤية تقدمية لمجتمع متساوٍ تسوده العدالة وتكافؤ الفرص وإذا كانت تجربة الجنوب قد تعرضت لحصار سياسي واقتصادي على المستويين الإقليمي والدولي ضمن إطار التنافس الجيوسياسي بين القوتين العظميين آنذاك، الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي، وهو من أثر على مسارها السياسي والاقتصادي، لكن ذلك لم يُلْغِ جوهر المشروع الثوري ولا احلام الناس التي قامت عليها تلك التجربة.

 

اعتقد ان المشكلة في بروز هذه الدعوات تقوم على رؤية متكلسة لا تراعي المتغيرات بالقدر في أنها تهدد بتفكيك الجنوب أكثر مما هو مفكك وتزيد من حالة التيه السياسي والاجتماعي، فبدلاً من التفكير في كيفية الخروج من مستنقع الأزمات المتلاحقة والصراعات البينية يتم استدعاء انظمة لفظها التاريخ، والرهان عليها وكأنها تحمل الحل السحري، فيما الحقيقة أن تلك الأنظمة كانت جزءاً من المشكلة وليست جزءاً من الحل و من المؤسف أن تتحول هذه الدعوات إلى أدوات تُستغل في لعبة الصراعات السياسية، وتُسخّر لخدمة أجندات لا تمت بصلة لطموحات الجنوبيين، و العودة إلى الوراء ليست مجرد مغامرة فكرية، بل انها تهديد صريح لكل ما تحقق عبر عقود من النضال. 

 

لاشك بأن ثورة أكتوبر التي أنجبت الحرية لم تكن لحظة عابرة بل مساراً نضالياً طويل الأمد قائمًا على رؤية لمجتمع حديث ومتكافئ وهي لم ولن تفقد شرعيتها ولا جوهرها الأخلاقي وفي ظل تعقيدات المشهد الراهن فإنه ليس بالضرورة، إعادة امجاد كيانات غابرة بل بناء مشروع وطني جامع يعيد الاعتبار لقيم العدالة والكرامة ويضع الإنسان في صلب العملية السياسية والتنموية بعيداً عن أوهام الماضي وخطابات لا تُقنع أحداً.

والسؤال الذي لا يمكن الهروب منه: إلى أين يمضي الجنوب؟ وكيف يمكن أن نستلهم من التاريخ دروسا دون أن نقع في فخ التكرار؟ فالمستقبل لا يُبنى على أنقاض الأوهام بل على مشروع وطني يعيد الاعتبار للناس وتطلعاتهم، مشروع لا مكان فيه لسلطنة أو مشيخة اندثر تواجد شبيهاتها عالميا منذ قرون مضت. اننا بحاجة الى مشروع وطني لدولة مدنية عادلة قادرة على حمل تطلعات الأجيال القادمة.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي