كتب | مازن العسلي : القيادة الحقيقية في الذاكرة الجمعية ومسار استعادة اليمن

كتب
الخميس ، ١٠ ابريل ٢٠٢٥ الساعة ١٢:٤٠ مساءً

 

حين تضطرب الأمم، وتضيع معالم الطريق، تبحث الشعوب في أعماق ذاكرتها عن يدٍ تقودها، وعن صوتٍ لا يَخونها في متاهات الفوضى.

وفي عالمٍ لا يرحم الضعفاء، تصرخ الحقيقة بصوتٍ واحد: لا بقاءَ لرايةٍ بلا قائدٍ، ولا خلاص لوطنٍ إلا بمن يسير أمام الصفوف، لا خلفها.

فهل آن لليمن أن يجد قائده الذي تصنعه المواقف، لا العناوين؟ وهل آن للذاكرة الجمعية أن تُنصف مَن يحمل الأمانة بصدق الفعل لا بزيف القول؟

 

في صمت الغابات، حيث تسكن الحقيقة عاريةً بلا رتوش، تُسطَّر الهوية في الذاكرة الجمعية بسلاح الأفعال لا بزخرف الأقوال.

حين يصدُّ القائد هجوم الأسد، لا يُذكَر الحدث فقط، بل يُحفَر اسم صاحبه في قلوب الجماعة رمزًا للشجاعة والوفاء.

وقد أثبتت الدراسات العلمية صدق هذه الفطرة؛ ففي تجربةٍ أُجريت في سهول كينيا، لاحظ الباحثون كيف تتذكّر الفيلة زعيمتها العجوز التي قادت القطيع بأمان عبر سنوات الجفاف والهجمات، حيث كانت الفيلة تستجيب لأوامرها بلا تردّد، وفاءً لمواقفٍ حُفرت عميقًا في الوجدان.

 

وفي البراري الموحشة، أثبتت مراقبات الذئاب البرية أن القيادة لا تُمنح إلا عبر التجربة والنجاح المتكرّر، حيث تتبع الجماعة القائد الذي نجح في الصيد والحماية، لا ذاك الذي علا صوته دون أن تثبت أفعاله.

وفي مجتمعات الشمبانزي، أظهرت الدراسات أن القردة تختار من تتحالف معه بناءً على أمانته في المواقف الحرجة، لا على صوته العالي أو مكانته الظاهرة.

 

هكذا تُخزَّن الذكريات الصادقة في أعماق الدماغ، في "قرن آمون" والقشرة الجبهية الأمامية، بعيدًا عن شوائب التزييف، صانعةً هويةً يُبنى عليها مصير الجماعة.

 

وأمام هذا النقاء الفطري، يُطلّ الإنسان بثقله، وقد خنقته المصالح الشخصية، وأضلّته زخارف الإعلام، فصار كثيرٌ منه ينسى مَن نصره ويُكرّم مَن خانه، حتى اختلطت الهويّات وضلّت الذاكرة عن دربها القويم.

 

وها نحن اليوم، في الحالة اليمنية، نقف على مفترق طرق، أحوج ما نكون إلى قائدٍ لا تصنعه الخطب الرنانة، ولا ترفعه أبواق الإعلام المأجور، بل يثبت وجوده بالفعل الذي يَخترق وجدان الأمة، ويعيد بناء مؤسسات الدولة المنهارة، ويصدُّ انقلاب الفوضى، وينهض بالوطن من ركام المعاناة.

 

إن ذاكرة الشعوب، كما تعلّمنا من الفيلة والذئاب والشمبانزي، لا تحفظ الشعارات ولا الألقاب، بل تحفظ مَن دلّها على الماء حين جفّت الأرض، ومَن حماها حين عصف بها الخطر.

واليمن اليوم لا يحتاج إلى من يملأ الفضاء وعودًا خاوية، بل إلى من يحفر اسمه في ذاكرته الجمعية بسواعد صادقة، وقرارات لا تعرف التردد.

 

فالهويّة، كل الهوية، تُصنع حين تشتدّ العواصف وتتكالب الأخطار، ولا تُمنح لمن يجلس في ظلال الأمان.

إن القائد الحق هو الذي تصنعه أفعاله، لا صوره المعلّقة، وهو الذي يورّث ذكراه في قلوب الناس كما تورث الفيلة حكمة زعيمتها، وكما تتبع الذئاب مَن أثبت كفاءته في سواد الليل.

 

في ذاكرة الأمم، لا يخلد إلا مَن بَذل دمه، وحفظ كرامة قومه، وقادهم حين فرّ القوم، وثبت حين اهتزّت الأرض تحت الأقدام.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي