بين الاصطفاف الوطني والمناطقية والسوقنة السياسية

عبدالرحيم الفتيح
الاربعاء ، ٢٦ مارس ٢٠٢٥ الساعة ٠٣:٣٢ صباحاً

   على نار المصلحة الراهنة، كانت ملامح اصطفاف سياسي قد بدأت بالتشكل، ثم ما لبثت هذه الملامح أن أنصهرت وانجرفت في فيضانات العنصرية المقيتة والتمنطق خلف اللامنطق.

غير أن هذه المناطقية رغم مساوئها وحسناتها كان من المهم لمجاريها أن تطفح لتخبرنا أننا بحاجة لاصطفاف اجتماعي، اصطفاف زاده الوحيد المعاناة المشتركة، وليس الاصطفاف السياسي كمشروع يقوم على استراتيجيات الربح والخسارة، المحاصصة والتنكيل بالمؤسسات، وتمزيق المصلحة العامة بمشارط الفرد.

إن الطريق لأي اصطفاف وطني حقيقي لا بد أن تبدأ من عدالة انتقالية، رفع مظلوميات وتعويض الضحايا، وجبر الضرر وليس من نبذ المناكفات مع إبقاء النيران مشتعلة من الداخل، لتندلع مع أقل شرارة.

الاصطفاف، كفعل سياسي واجتماعي، لا ينبثق من فراغ، بل يتشكل في خضم شبكة معقدة من المصالح، حيث تُعيد الذات تعريف انتماءاتها وفقاً للبراغماتية التي تفرضها اللحظة. إنّ الحديث عن الاصطفاف ليس مجرد تحليل لمواقف جماعية متقابلة، بل هو الغوص في عمق البنية التي تؤطر ذلك الاصطفاف، حيث تصير المصلحة، بما هي تمفصل بين الضرورة والاختيار، قوة دافعة تعيد رسم الخرائط السياسية والاجتماعية وفقاً لمنطق المكاسب والخسائر.  

وهنا يتبدّى الفرق الجوهري بين الاصطفاف القائم على المبدأ، والاصطفاف الذي ينضج على نار المصلحة أو المال. الأول يتجذر في بنية قيمية ترى في الموقف التزاماً متجاوزاً للحسابات المباشرة، أما الثاني فيُشبه تدافع الذرات في الفراغ، حيث يكون الاصطفاف استجابة آنية لتحفيز خارجي، سواء كان مصلحة مادية أو شبكة علاقات تحكمها منطقية الربح والخسارة. وهذا النمط من الاصطفاف يفضح هشاشة الانتماء، إذ لا يكون الولاء فيه متجذراً في وعي سياسي أو أيديولوجي، بل متحولاً، متكيفاً، وفقاً لما يفرضه الاقتصاد السياسي للّحظة الراهنة.  

إن الاصطفاف القائم على المصلحة، إذ يتجسد في شخوصٍ وجماعات، يكشف عن ظاهرة أعمق نسميها" السوقنة السياسية"، فكما تتحرك السلع في السوق وفقاً للعرض والطلب، كذلك يتحرك بعض الفاعلين السياسيين وفقاً لمن يدفع أكثر، أو لمن يوفر شروط الهيمنة المريحة. وهنا نرى أن الاصطفاف في ظل المال لا يُنتج بالضرورة تماسكاً اجتماعياً، بل على العكس، هو أشبه بشبكة هشّة من التحالفات المؤقتة، التي تنهار عند تغير موازين القوى.  

لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. إذ إن الاصطفاف الذي تُحدد مساره المصالح المادية غالباً ما يقود إلى إعادة إنتاج البنية السلطوية القائمة، لا إلى تفكيكها أو تغييرها. فمن يستقطب الآخرين بالمال، لا يسعى إلى تحقيق مشروع تحرري، بل إلى توسيع دائرة نفوذه. وهكذا، تصبح السياسة في هذا السياق أشبه بمزاد مفتوح، حيث تباع الولاءات وتُشترى، وحيث تتحول المواقف إلى سلع قابلة للتداول، وفقاً لمنطق الاقتصاد السياسي للفساد.  

وهنا تكمن المفارقة الكبرى: المال، بوصفه أداة للإغواء، يصنع اصطفافات سريعة لكنها قصيرة الأجل، في حين أن المبدأ، رغم كلفته العالية، يصنع اصطفافات بطيئة لكنها أكثر رسوخاً. من هنا، فإن أي حركة تاريخية تسعى لتجاوز اللحظة الراهنة، لا يمكن أن تبني على اصطفافات مصلحية، بل على وعيٍ يتجاوز المصلحة الآنية إلى أفق أوسع من الالتزام والتضحية.  

إن الاصطفاف القائم على المصلحة أو المال قد يمنح صاحبه نفوذاً لحظياً، لكنه، في التحليل الأخير، يبقى أصطفافاً زائفاً، ينهار عند أول اختبار حقيقي. أما الاصطفاف القائم على الفكرة، فيقاوم الزمن، ويظل عصيّاً على البيع والشراء.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي