في قلب العاصمة صنعاء، حيث تتناقض جدران الحرب مع صمود الإنسان، تقف فتاة في ريعان شبابها كزهرة يانعة مهددة بالذبول. لا تكاد تخطو خطوة إلا وترتجف قدماها، ولا ترفع صوتها إلا ليختنق بين شفتيها الجافتين. إنها تنتصب وسط الشارع، تحمل على كتفها صغارًا أربعة، وأمًّا تبيع العطور في زاوية، وأبًا معلّمًا بلا راتب، وأخًا مُقعدًا طريح الفراش منذ سنوات. هذه الفتاة التي ينبغي أن تحمل كتابًا لا صندوقًا لبيع الحاجات التافهة، صارت عائل الأسرة الوحيد في زمنٍ لا يرحم.
كلما اقتربت دراجة نارية منها، تقلصت كأنما تُقتلع من جذورها. الخوف يلفّها، لكن الحاجة أقوى. أخبرتني بحكايتها بلغة الدموع قبل الكلمات: "أبي مُعلّم بلا مدرسة، أمي تبيع العطور ولا أحد يشتري، أخي يحتاج دواءً بلا ثمن". في عينيها الزرقاوين حكاية أسرٍ بأكملها تطحنها الحرب، وتخجل منها السلطة قبل المجتمع.
أما العاصمة التي عشقتها يومًا، فلم تعد سوى شوارع مُجهّمة، تزداد قسوة كلما هبّت رياح البرد. هنا، حيث كان يُسمع غناء التراث وعبق البن، صار الصوت الغالب هو أنين الأمهات اللواتي يدفئن أطفالهن بـ"لحاف الهواء"، وحشرجة السيارات التي لا توقفها دموع. تُنفق الدولة جهودها في ملاحقة خصلة شعر تنسدل من تحت حجاب، بينما أسرٌ بكاملها تفتش عن كسرة خبز في مكبات النفايات!
أكتب اليوم لأن قلبي يحترق. لأني رأيت أمًّا في حارتنا تذرف الدمع حين سلمت عليها، تذكرًا بابنها الذي خطفته الحرب من حضنها قبل أربع سنوات. لأني كلما اشتريت من تلك الفتاة شيئًا، أشعر أنني أخونها؛ فدراهمي القليلة لا تساوي كرامتها المهدورة. لأني أسير واليد على القلب، وأتساءل: أي عالم هذا الذي يحارب الجمال ويبارك القبح؟ أي سلطة هذه التي تختار أن تكون عدوًا للفنون وصديقة للجوع؟
صنعاء الحبيبة، كيف انقلبتِ ساحةً للمآسي؟ أين نسيمك العابق برائحة القهوة؟ أين ضحكات الأطفال في أزقتك؟ لقد صرنا نعيش على إيقاع الأنين: أنين الأمهات، أنين الأرض، أنين الضمير الذي يصرخ: "كفى!".
هذا المقال ليس سوى صرخة في وجه زمنٍ قاسٍ، ومساءلة للسلطات التي ترفض أن ترى. فهل من معتبرٍ بحال تلك الأسر التي تُدفع إلى الشارع لتنام على الرصيف؟ هل من عينٍ تدمع لكرامة إنسانة تُباع مع كل غرض تافه؟
إلى متى سنسكت عن تحويل البشر إلى أشباح؟ إلى متى سنسمح للحرب أن تطحن أحلام الزهور قبل أن تتفتح؟
إنها ليست شكوى من قدرٍ محتوم، بل تمرد على نظامٍ يختار أن يموت الناس بصمت.. فهل نبقى هكذا؟!
-->