حين يُصبح الوسيط جزءًا من الصراع لا مفتاحًا للحل، وتتقاطع المصالح خلف واجهات الحياد، يتحول الدور الإقليمي من دعم السلام إلى تعقيد المشهد؛ فيتحول الدواء إلى داء.
هكذا نرى جميع المبعوثين الأمميين إلى اليمن، وهكذا ظهرت سلطنة عُمان في الملف اليمني؛ لا كما يُراد لها جسرًا نحو الانفراج، بل كقناة خلفية لاستدامة الحرب وعرقلة استعادة الدولة.
فهل يُرتجى الشفاء ممّن كان سبب الداء؟
وهل يُعقل أن تستمر الفوضى بذريعة الوساطة؟
بينما الحقيقة تُخبرنا أن الأبواب تُغلق في وجه اليمنيين كلما فُتح باب نجاة!
وإذا ما تتبّعنا مسار الأزمة اليمنية بكل تشابكاتها وتعقيداتها على امتداد عقدٍ من الزمن، لوجدنا أن استمرار الحرب وتعثّر الحلول السياسية لا يُعزى فقط إلى تعنّت الحوثي،
بل يرتبط أيضًا بغياب إرادة دولية وإقليمية جادّة، وبسلسلة طويلة من التدخلات السلبية التي ساهمت في إطالة أمد الصراع وتدمير آمال بناء الدولة اليمنية الاتحادية الديمقراطية المنشودة.
لقد كان اليمن، عقب مؤتمر الحوار الوطني الشامل، قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الحلم الكبير: دولة مدنية حديثة، تتسع لجميع اليمنيين دون إقصاء أو تهميش، تُبنى بالتوافق والشراكة، وتُدار بروح المواطنة لا بمنطق الغلبة.
غير أن هذا النموذج الديمقراطي الوليد لم يُرضِ بعض الأنظمة التقليدية المجاورة، فرأت - خطأً - فيه خطرًا على بنيتها، فسعت لوأده، وبعضها يدير - بسبب هذا الفهم الخاطئ - حروبًا لا تنتهي تلتهم الأخضر واليابس في اليمن.
وبدلًا من دعم هذه التجربة الوليدة، اتجهت بعض تلك الدول إلى تقويضها، من خلال تشكيلات مسلحة موازية للدولة، ذات طابع جهوي انفصالي أو انتقامي، تُدار بعيدًا عن مؤسسات الدولة، وتفرض مشاريعها بالسلاح والنار، فتُجهض بذلك أي أمل في مشروع وطني جامع.
صحيح أن المملكة العربية السعودية كانت مختلفة، فقد لبّت نداء الشرعية اليمنية، وتدخلت عبر "عاصفة الحزم" لهدف واضح ومعلن: إنهاء الانقلاب واستعادة الدولة.
لكن ربما كان خطؤها أنها تركت مساحة لآخرين، فبعض شركائها في التحالف العربي سلكوا مسارات مغايرة؛ فعُمان، كما ترون، وقطر انسحبت من التحالف، والإمارات – للأسف – عملت وفق أجندة خاصة بها، بعيدة عن أهداف التحالف المُعلنة.
وكان الأجدر بالقيادة الشرعية أن تنسق تنسيقًا كاملًا مع المملكة العربية السعودية لرسم خارطة طريق موحدة، تنهي الانقلاب، وتعيد السيادة اليمنية دون التفريط بوحدة اليمن أو المساس باستقلال قراره الوطني.
ومن بين العوامل المؤثرة في تعثّر الحلول أيضًا، غياب رؤية شاملة توحد مواقف المكونات اليمنية ودول الخليج قاطبة من جهة، وتبني موقف استراتيجي موحد تجاه إيران من جهة أخرى.
وهنا برز الدور العُماني، لا كجسرٍ للحل، بل كمصدر لتعقيد المشهد.
فعُمان، التي رفعت شعار الحياد في موقف لا يقبل الحياد، بل الانحياز للشرعية الدولية، تحولت إلى قناة دعم مباشر للحوثيين "المتمردين المنقلبين" سياسيًا ولوجستيًا.
استقبلت قياداتهم، وسهّلت تمرير الأسلحة المتطورة إليهم، لتصبح بذلك "الرئة" التي يتنفس منها الحوثي حتى اللحظة.
في العلن، تظهر كوسيط سلام، وفي الحقيقة، تؤدي دور المموّل والمُيسّر.
واليوم، لا تكتفي عُمان بدورها في اليمن، بل إن عقدة التوسط في القضايا الساخنة، كما هي موضة بعض دول الخليج، قد انتقلت إليها؛
فها هي تسعى لتقديم نفسها كوسيط بين إيران والولايات المتحدة، وستستضيف بالفعل أول لقاء مباشر بين مسؤولي البلدين على أراضيها يوم السبت القادم.
وقد سعت إلى ذلك تحديدًا حين شعرت أن الحوثيين يتعرضون لضربات قاصمة من قِبل إدارة ترامب، فتتحرك لحمايتهم عبر البوابة الإيرانية بالتفاوض مع أمريكا هذه المرّة.
وكنا نظنها، بحكم الجوار، ستنحاز للشعب اليمني، لكنها – للأسف – لم تفعل، إلا حين يتطلب الأمر إنقاذ الحوثي، لا اليمن.
أما الإمارات، ومع الأسف، فقد دعمت التوجهات الانفصالية في الجنوب، وسعت لفرض نفوذها من خلال تشكيلات عسكرية خارج مؤسسات الدولة الشرعية.
ورغم دخول "المجلس الانتقالي" الحكومة وفق اتفاق الرياض، واشتراكه في مجلس القيادة الرئاسي بناءً على مخرجات المشاورات اليمنية-اليمنية برعاية مجلس التعاون الخليجي في أبريل 2022،
لا تزال هذه التشكيلات تُقوّض جهود الدولة، وترفض الاندماج تحت مظلة القوات المسلحة اليمنية، مما يُعمّق الانقسام، ويُضعف الشرعية، ويقوي الحوثي.
وفي خضم هذه التعقيدات، شُكّل مجلس القيادة الرئاسي، على أمل أن يكون نقطة انطلاق نحو توحيد الصفوف وهيكلة المؤسسات، لكنه لا يزال يدور في فلكه الأول، دون إنجاز ملموس حتى الآن.
فما هو الحل؟
إن الحل يكمن في التحرك العاجل والمسؤول، عبر مشاورات استراتيجية عميقة وشفافة بين المكونات اليمنية المنضوية تحت راية الشرعية، وبين الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي ودوله، وصولًا إلى رؤية موحدة تحفظ مصالح الجميع، وتضع حدًا للتدخلات السلبية، وتعيد لليمن سيادته الكاملة.
كما ينبغي توحيد الخطاب السياسي والعسكري، والتفاوض الجماعي مع إيران لإنهاء تدخلها في اليمن، وقطع شرايين الدعم عن الحوثيين، أو مواجهتها بحزم إن اقتضى الأمر.
فاستمرار هذا المشروع التخريبي لا يُهدد اليمن وحده، بل يُزعزع أمن واستقرار الخليج برمّته.
ختامًا...
لقد آن الأوان لأن تُنزع الأقنعة، ويُقال للوسيط المخادع: "ارفع يدك عن اليمن!"
فليُرفع الغطاء عن المتخفين خلف عباءة الحياد، ولتُمنح اليمن فرصة الخلاص بيد أبنائها، لا على طاولات المساومات.
فساعة الحسم تقترب، واليمن أكبر من أن يُدار عبر قنوات خلفية، أو أن يُقسم على مذبح المصالح الإقليمية والدولية.
فبلد أنهكته الحروب لا يحتمل المزيد من المتاجرة بقضاياه تحت مسميات السلام الزائف.
ولنُبارك الخطوات المتخذة والمتلاحقة من قبل القيادة السياسية الشرعية، في سياق اقتراب ساعة الحسم، التي أشار إليها رئيس مجلس القيادة الرئاسي مؤخرًا، والتي يبدو أنها باتت قريبة جدًا.
-->