حين يتحدث رئيس الوزراء، تشعر أن اليمن تسير على عجلات من ذهب نحو مستقبلٍ مشرق، وأن التنمية بلغت ذروتها، فتجاوزت مرحلة المهد وجلست على عرش الازدهار! بل ويبدو أن البلاد تفيض بالكفاءات إلى درجة الاكتفاء، وأن الحكومة منشغلة بتوظيف العقول المهاجرة وربطها – بمهارة سياسية – بكوادر الداخل!
ولكن، ويا للأسف، لم يتكرم دولة رئيس الوزراء بسؤال بديهي:
لماذا غادرت هذه الكفاءات اليمن من الأساس؟
بل الأجدر أن يبدأ بسؤال أكثر جوهرية: هل قدّمت حكومته الحد الأدنى من الرعاية لأولئك الذين آثروا البقاء في وطنهم رغم المعاناة؟
وهل يدرك الدكتور بن مبارك أن الأستاذ الجامعي في اليمن يتقاضى ما لا يتجاوز 500 ريال سعودي شهريًا؟
وهل يعلم أن هذا الراتب يتآكل يومًا بعد يوم بسبب انهيار الريال اليمني، الذي أُصيب – بسياساتهم الفاشلة – بـ"إسهال نقدي حاد"، لم تنفع معه لا المسكنات، ولا المساعدات، ولا حتى "السوائل الوريدية"... عفوًا، أعني السيولة المطبوعة!
هذا الراتب الزهيد يُمنح لمن يحمل درجة الأستاذية! أما الأستاذ المساعد، فله "فتات الفتات"، وغالبًا ما يُصرف متأخرًا، دون علاوات، ودون وعود تتحقق.
هذا المبلغ – بسخافته – لا يكفي لاحتساء فنجان قهوة في مقهى محترم... بلا سكر، ولا حتى ماء!
فكفّ يا دولة رئيس الوزراء عن الحديث عن الكفاءات كما لو كنت والدهم الحنون، أو عن التنمية وكأنها ابنتك المدللة! الواقع أشد قسوة من أن يُغلف بخطابات منمقة، والناس يعانون فعليًا، ولم تعد تنطلي عليهم الشعارات، ولا الندوات، ولا الورش، ولا المؤتمرات.
والأغرب من ذلك، أن حديث دولة رئيس الوزراء وُجّه لوزير التعليم العالي والبحث العلمي، مكلّفًا إياه بالتواصل مع كفاءات المهجر، ومشدّدًا على أهمية التعاون معهم، لأنهم – كما وصفهم – "الرصيد الحقيقي لليمن"!
جاء ذلك خلال ندوة في العاصمة المؤقتة عدن، ضمن فعاليات المؤتمر الطلابي العلمي الأول، تحت شعار: "نحو بيئة علمية حاضنة للبحث والابتكار".
يا للعجب!
شرّ البلية ما يُضحك!
ليته أخبرنا عن تكلفة هذه الفعاليات؟ عن أي بيئة علمية تتحدثون؟ وأي حاضنات؟ وأي بحث؟ وأي طلاب؟!
الطلاب الذين يُفترض أن يُقام المؤتمر باسمهم، يعانون الجوع، ويقاسون البرد، ويطلبون من الشرطي في القسم مهلةً لسداد الإيجار!
يحملون في هواتفهم إعلانات ووعودًا جوفاء، وبيانات حكومية محفوظة عن ظهر قلب، بأن "الربع الفلاني سيُصرف قريبًا!"
علّ أصحاب البقالات يرحمونهم، أو تتفهمهم أقسام الشرطة التي اعتادوا زيارتها بسبب الشكاوى عليهم.
وفي حين تُرفع لافتات المؤتمر العلمي الأول، يقف بعض الطلاب معتصمين أمام السفارات، ويصرخ آخرون داخلها مطالبين بحقوقهم.
أما بقية خطاب دولة رئيس الوزراء، فلن أخوض فيه، فهو لا يعدو أن يكون نصًا أدبيًا منمقًا، يسبح في خيال تنموي، ويزخر بشكر بروتوكولي لا صلة له بالواقع.
الخلاصة:
الكفاءات اليمنية لم تغادر عبثًا... بل هجّرتها قسوة الإهمال، وضآلة الرواتب، وغياب التقدير.
والبيئة – يا دولة رئيس الوزراء – ما زالت طاردة، بل طاردة أكثر من أي وقت مضى!
ابدؤوا أولًا باستيعاب الكفاءات النازحة في الجامعات الواقعة ضمن المناطق المحررة، ثم حدّثونا لاحقًا عن كفاءات الخارج!
أما الطلاب، فلا يحتاجون إلى مؤتمر علمي، بل إلى حكومة مسؤولة تصرف مستحقاتهم بانتظام، ليواصلوا دراستهم، ويحققوا طموحاتهم، ويسهموا في بناء وطنهم!
ويا ليت دولة رئيس مجلس الوزراء وجّه، بدلًا من كلامه، أمرًا عاجلًا بصرف مستحقات طلاب الخارج للربع الأخير من عام 2023، فهذا – وحده – هو أعظم مؤتمر علمي يمكن أن يحضره الطالب اليمني!
-->