تواصلاً... فيما يحبّه الله من صفات المتقين، تأملات في سورة التوبة:
إذا ما انتقلنا بتدبّرٍ تأملي مترابط للآيات (4، 7، 36، 123) من سورة التوبة، فإننا نصل إلى ما يلي:
الآية 4 من سورة التوبة
﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾
ترسّخ هذه الآية مبدأ الوفاء بالعهد، حتى مع المشركين، ما داموا ملتزمين به. ويتجلّى فيها عدل الإسلام، إذ لا يُقاس الآخر بدينه بل باستقامته على العهد. وخُتمت بقوله: "إن الله يحب المتقين" لتبيّن أن الوفاء أحد مظاهر التقوى.
الآية 7 من سورة التوبة
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾
تبرز الآية تساؤلًا استنكاريًا عن معقولية وجود عهد مع من لا يلتزمون به، لكنها تستثني من وقع معهم عهدٌ عند المسجد الحرام، بشرط الاستقامة. فالمسجد الحرام رمز لقداسة المواثيق، لا يُقبل فيه غدر. والمبدأ واضح: المعاملة بالمثل في السلم والخصومة.
الآية 36 من سورة التوبة
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا... مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ... فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾
تشير الآية إلى أن للزمان قداسة، كما للمكان (المسجد الحرام) قداسة. ومن بين الشهور أربعة حُرُم يُحرَّم فيها القتال تعظيمًا لحرمة النفس البشرية. وجاء التحذير: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" دعوة ضد العدوان وتنظيم للقتال ضمن ميزان أخلاقي. وخُتمت بالتوكيد: "والله مع المتقين".
الآية 123 من سورة التوبة
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾
توجيه استراتيجي للبدء بمواجهة الأقرب خطرًا. والغلظة هنا تعني الحزم ضد المعتدي، لا الظلم. وخُتمت بالتأكيد على أن "الله مع المتقين"، أي أن التقوى هي معيار شرعية القتال، لا الغضب ولا الانتقام.
الربط العام بين الآيات الأربع:
تشكل هذه الآيات نسيجًا قرآنيًا مترابطًا حول القيم الآتية:
1. العدالة والوفاء بالعهد:
في الآيتين (4، 7)، تُبنى العلاقة مع الآخر على الاستقامة، لا على الدين فقط.
2. حرمة الزمان والمكان:
في الآية (36)، احترام مواقيت مخصوصة يُعبّر عن نزاهة القتال وتنزيهه عن العبث.
3. القتال المشروع والضروري:
في الآية (123)، توجيه القتال لمن يُمثّل الخطر الحقيقي، مع ضبطه بميزان التقوى.
4. التقوى ميزان العلاقة مع الله:
كل التوجيهات خُتمت بمدح المتقين، لتأكيد أن السياسة الشرعية والسلوك القتالي يجب أن يُحكما بالتقوى، لا بالمصالح الضيقة.
العِبَر والمغزى:
1. الإسلام ليس دين غدر، بل دين عهد وعدل، حتى مع غير المسلمين.
2. الاستقامة على العهد طريق إلى محبة الله.
3. التقوى هي الميزان الشرعي للأعمال، وهي التي تضمن القرب من الله.
دعاء ختام خاطرة الجمعة:
اللهم اجعلنا من المتقين، الذين تحفظهم بوفائهم بعهدهم، وترفعهم بصدقهم، وتقرّبهم إليك بطاعتهم.
اللهم اجعل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، واهدنا إلى صراطك المستقيم، ووفقنا لما تحب وترضى في السر والعلانية.
اللهم اجعل ما بعد رمضان خيرًا لنا مما قبله، وثبّتنا على طاعتك، وارضَ عنا، وتقبّل منا، إنك أنت السميع العليم.
وخميس جميل وجمعة مباركة.
-->