كيف ساهمت الممالك والمشيخات العربية في إفشال الجمهوريات؟

عبدالباري علاو
الثلاثاء ، ٢٥ مارس ٢٠٢٥ الساعة ٠١:٠٩ صباحاً

 

لعبة إسقاط البدائل

لم يكن سقوط الجمهوريات العربية مجرد نتيجة لأزماتها الداخلية المتمثلة في الفساد والاستبداد، بل كان أيضًا جزءًا من صراع إقليمي ودولي، لعبت فيه الممالك والمشيخات العربية دورًا محوريًا. هذه الأنظمة، التي قدمت نفسها كنماذج لـ"الاستقرار"، لم تكتفِ بمراقبة الجمهوريات وهي تنهار، بل كانت شريكًا نشطًا في هذا السقوط، مدفوعةً برغبتين أساسيتين: القضاء على أي نموذج بديل قد ينافسها، وترسيخ شرعيتها كنمط الحكم الوحيد الممكن في المنطقة.

الجمهوريات العربية: التمرد على المعادلة الغربية

معظم الجمهوريات العربية التي انهارت أو دخلت في أزمات حادة كانت، بدرجات متفاوتة، أنظمة حاولت الخروج من الهيمنة الغربية، أو على الأقل تحقيق نوع من الاستقلالية في القرار السياسي والاقتصادي.

منذ الستينيات وحتى بداية القرن الحادي والعشرين، مثلت هذه الجمهوريات—رغم كل عيوبها—محاولات لصياغة مسارات وطنية، وإن كانت متعثرة:

مصر عبد الناصر: واجهت الاستعمار، دعمت حركات التحرر، وسعت إلى بناء اقتصاد مستقل.

العراق صدام حسين: حاول بناء قوة عسكرية وصناعية تقلل من التبعية للغرب.

ليبيا القذافي: تبنت سياسة راديكالية في مواجهة النفوذ الغربي.

سوريا الأسد: احتفظت بعلاقات متوترة مع القوى الغربية، وسعت للحفاظ على نوع من السيادة الوطنية.

اليمن الجنوبي (قبل الوحدة): تبنى نهجًا اشتراكيًا مناهضًا للرأسمالية الغربية.

الجزائر هواري بومدين: قادت مشروعًا اقتصاديًا اشتراكيًا قائمًا على تأميم الثروات وبناء اقتصاد وطني مستقل.

اليمن إبراهيم الحمدي: حاول بناء دولة مؤسسات حديثة مستقلة عن النفوذ الخارجي، فتم اغتياله في ظروف غامضة أوقفت مشروعه.

السودان جعفر النميري: بدأ بسياسات اقتصادية مستقلة وانتهى في مواجهة ضغوط دولية وإقليمية أدت إلى إضعاف نظامه.

الصومال زياد بري: قاد نموذجًا اشتراكيًا حاول تحقيق استقلال اقتصادي وسياسي، لكنه انهار بفعل الضغوط الداخلية والخارجية، مما قاد البلاد إلى حرب أهلية طويلة.

ورغم أن هذه الأنظمة لم تكن ديمقراطية، إلا أنها كانت تمثل خروجًا عن القاعدة التي أراد الغرب ترسيخها في المنطقة: أنظمة تابعة تعتمد على الدعم الخارجي اقتصاديًا وعسكريًا، وتلتزم بالخطوط الحمراء المرسومة لها.

كيف لعبت الممالك دورها في إسقاط الجمهوريات؟

1. دعم الثورات المضادة والانقلابات

عندما بدأت موجات التغيير السياسي تجتاح المنطقة، لم تقف الممالك مكتوفة الأيدي، بل تحركت لإضعاف الجمهوريات عبر دعم الثورات المضادة وتمويل الانقلابات العسكرية:

في مصر: لعبت بعض الدول الخليجية دورًا أساسيًا في إغراق البلاد في أزمات سياسية واقتصادية متلاحقة، من خلال دعم سياسات أفضت إلى تفاقم الدين العام،  مما جعل مصر أقل قدرة على صياغة مسار تنموي مستقل.

في اليمن: لم يكن التدخل الخليجي لدعم التحول الديمقراطي، بل للسيطرة على مخرجاته، وعندما لم يعجبها المسار، تحولت إلى حرب مدمرة زادت من تفكك البلاد.

في ليبيا: ساندت بعض الدول الخليجية أطرافًا معينة لإبقاء الفوضى مشتعلة، ومنع ظهور نظام وطني مستقل.

في تونس، حيث انطلقت أولى شرارات الربيع العربي، لعبت بعض الدول الخليجية دورًا رئيسيًا في تمويل ودعم انقلاب سياسي أنهى المسار الديمقراطي الوليد. تم ذلك عبر دعم مالي وإعلامي ضخم، وتحالفات داخلية مكنت الرئيس من احتكار السلطة وإقصاء المعارضة، مما أدى إلى إجهاض التجربة التونسية كآخر نموذج ديمقراطي في المنطقة.

2. إغراق الجمهوريات في الصراعات والحروب

في سوريا: لعبت بعض دول الخليج دورًا مزدوجًا، دعمت المعارضة المسلحة، لكنها في الوقت نفسه ساهمت في استدامة الصراع عبر دعم مجموعات متطرفة جعلت سوريا ساحة حرب دائمة، مما أدى إلى إنهاك الدولة بدلًا من إسقاط النظام.

في العراق: بعد سقوط نظام صدام، استُخدمت الأدوات الطائفية لتقسيم البلاد، وتعميق حالة الفوضى.

في اليمن: غضت الطرف عن انقلاب الحوثيين، ثم استغلته كذريعة للتدخل العسكري، مما ساهم في تمزيق البلاد.

في السودان: دعمت انقلابًا ميليشياويًا، مما أدى إلى اندلاع حرب أهلية قد تمهد الطريق لإعادة تقسيم البلاد، كما حدث مع جنوب السودان.

في ليبيا: دعمت ضابطًا متقاعدًا أدى تدخله إلى تعقيد الأزمة، وفتح الباب أمام التدخلات الدولية.

3. الحرب الإعلامية وتشكيل الرأي العام

سخرت بعض دول الخليج إمبراطورياتها الإعلامية لتكريس فكرة مفادها أن: "الجمهوريات فوضى، والممالك استقرار". تم تصوير الربيع العربي على أنه مؤامرة، وتصوير أي محاولة للتحرر السياسي على أنها تهديد وجودي.

4. إجهاض أي مشاريع اقتصادية بديلة

سعت بعض الجمهوريات إلى بناء اقتصادات مستقلة، لكن الممالك التي تعتمد على النفط والتحالفات الغربية لم تكن ترغب في رؤية بدائل ناجحة، فعملت على إضعاف أي تجربة تنموية مستقلة، لضمان بقاء الجمهوريات في حالة عدم استقرار دائم يمنعها من تشكيل تهديد اقتصادي.

المفارقة الكبرى: لا مشاريع نهضوية بديلة

رغم أن الممالك نجحت في تقديم نفسها كأنظمة مستقرة، إلا أنها لم تقدم بديلًا حضاريًا حقيقيًا للمنطقة:

لم تسعَ إلى تحقيق اكتفاء ذاتي اقتصادي، بل ظلت تعتمد على الشركات الغربية لإدارة مواردها.

لم تطور أنظمة تعليمية تنهض بالمجتمع، بل اكتفت باستيراد نماذج جاهزة دون رؤية فكرية مستقلة.

لم تتبنَّ مشروعًا سياسيًا يوحد المنطقة، بل ظلت ترى في القومية العربية والإسلام السياسي تهديدًا لسلطتها.

هل يمكن أن تنقلب المعادلة؟

قد يبدو المشهد اليوم وكأن الممالك هي الطرف المنتصر، لكن هذا الانتصار قد لا يكون دائمًا. فالشرعية القائمة على شراء الولاءات واحتواء الغضب الاجتماعي عبر الرخاء الاقتصادي قد تواجه تحديات كبرى مع تغير الظروف:

تراجع النفط كمصدر رئيسي للدخل قد يجبر هذه الأنظمة على البحث عن شرعية سياسية جديدة.

ارتفاع الوعي السياسي لدى الشعوب قد يجعل استمرار الحكم المطلق أكثر صعوبة.

التحولات الدولية قد تجعل التحالفات الغربية أقل موثوقية مما كانت عليه في العقود الماضية.

اللعبة لم تنتهِ بعد

ما قامت به الممالك والمشيخات العربية لم يكن بدافع بناء مشروع نهضوي يحمي المنطقة من الفوضى، بل كان محاولة لإثبات أن نموذجها هو الوحيد القابل للاستمرار. لكن التاريخ لا يسير في خط مستقيم، وما بدا نجاحًا اليوم قد يتحول إلى تحدٍ في المستقبل.

السؤال الذي يبقى مفتوحًا:

هل ستظل الشعوب العربية عالقة بين خيارين لا ثالث لهما—إما جمهوريات فاشلة أو ممالك مستقرة بلا مشروع نهضوي؟ أم أن هناك فرصة لولادة نموذج جديد يجمع بين الاستقرار والحرية، وبين الحكم الرشيد والاستقلالية؟

الجواب لم يُكتب بعد، لكن ما هو مؤكد أن الممالك، رغم نجاحها الحالي، ليست بمنأى عن التغيرات التي قد تعيد تشكيل المشهد العربي من جديد.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي