حين تصبح الجغرافيا قدرًا: مصر في قلب المعادلة العربية والإقليمية

عبدالباري علاو
الأحد ، ٢٠ ابريل ٢٠٢٥ الساعة ٠١:٣٧ مساءً

في عالم يموج بتحولات كبرى، ويعيد فيه الآخرون رسم خرائطهم بأدوات القوة والمعرفة، يبدو العالم العربي وكأنه يقف خارج الزمن. ليس لأنه يفتقر إلى الإمكانات، بل لأنه لا يعرف كيف يحوّل تلك الإمكانات إلى مشروع. ومن يتأمل خريطة الإقليم اليوم، لا يحتاج إلى كثير عناء ليرى الفجوة الفادحة بين ما هو كائن وما كان يمكن أن يكون.

 

لسنا أمام مجرد أزمة سياسية أو اقتصادية؛ نحن أمام انسداد تاريخي، أمام مشهد تراجيدي لأمة أجهضت كل محاولة للنهوض، ثم جلست تبكي على أطلالها، أو تسخر ممن تبقى لديه الحلم. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل انتهى زمن المشاريع النهضوية العربية؟ أم أن هناك فرصة أخيرة، ربما لا تكون شاملة، لكنها كافية لتفتح كوة في جدار اليأس؟

 

النهضة المؤجلة: هل فات العرب قطار النهوض الجماعي؟

 

لسنا إزاء محاولة تنظيرية مثالية، ولا أمام دعوة حماسية إلى وحدة عربية شاملة، بقدر ما نحن بصدد قراءة تحليلية في تحولات الإقليم والعالم، تفرض علينا إعادة التفكير في الممكن والمأمول عربيًا. إن ما يعتمل في الجغرافيا العالمية من تحولات، لا يترك لأحد ترف الانكفاء أو الاستسلام، بل يدفع حتى الدول المنكفئة نحو حدودها إلى الانخراط – ولو قسرًا – في تفاعلات وصراعات ومعادلات، لا تملك تجاهلها، أو النجاة منها بمفردها.

 

العالم يتغير.. والنظام العالمي يترنح

 

لقد بات واضحًا أن النظام العالمي الذي تشكل عقب الحرب الباردة، يتعرض اليوم لهزات متلاحقة، لم تعد مجرد ارتجاجات ظرفية، بل تصدعات بنيوية تنذر بانهيار مرتقب. فعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي تزعمه الغرب بقيادة أمريكا، تشكّل على أساس من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، لكنه الآن يعاني من تضخم داخلي، وشيخوخة حضارية، وتحديات متراكمة تهدد منظومته من الداخل والخارج.

 

في قلب هذا المشهد، تبرز الترامبية كمؤشر على هذا التصدع، لا في أمريكا وحدها، بل في عموم العالم الغربي. النزعات الشعبوية، الانكفاء القومي، الانقسام المجتمعي، صعود اليمين المتطرف، وتآكل الثقة بالمؤسسات… كلها ظواهر تكشف عن أزمة عميقة تضرب جذور النظام الليبرالي الغربي.

 

العرب في مهب العاصفة

 

في خضم هذه التحولات العاصفة، تبدو الساحة العربية ساحة مفتوحة لتجارب الانهيار والتشظي، أكثر من كونها طرفًا فاعلًا في تشكيل النظام العالمي الجديد. فمنذ عقدين على الأقل، والعالم العربي يتحول إلى فراغ استراتيجي مفتوح أمام التدخلات الخارجية، ومسرح لحروب الوكالة، وتنافس القوى الإقليمية والدولية، في ظل غياب أي منظومة عربية فاعلة قادرة على فرض حد أدنى من التماسك أو الحماية.

 

لقد أصبحت الدول العربية، خصوصًا تلك التي شهدت انهيارات أو اضطرابات كبرى، كالعراق وسوريا وليبيا واليمن، ساحات مفتوحة لإعادة تشكيل خرائط النفوذ، في مشهد يعيد إلى الأذهان انهيارات ما بعد الحربين العالميتين، حين جرى تقاسم الإرث العثماني، وتقسيم بلاد الشام والعراق، وزرع الكيان الصهيوني في فلسطين.

 

اليوم، تعود الديناميات ذاتها، وإن بوسائل وأدوات مختلفة: مليشيات بدل الجيوش، وخرائط طائفية بدل حدود سايكس-بيكو، وقواعد عسكرية بدل الاحتلال المباشر، واقتصاديات مدارة عن بعد بدل شركات الاستعمار التقليدي.

 

هل ما زالت هناك فرصة؟

 

قد يبدو الحديث عن مشروع نهضوي عربي مشترك اليوم ضربًا من الترف السياسي، أو حلمًا مؤجلًا بلا أفق، في ظل انعدام الثقة بين الأنظمة، وارتهان الكثير من مراكز القرار لإرادات خارجية. غير أن قراءة دقيقة للواقع، تكشف عن مفارقة لافتة: ففي عزّ هذا التشرذم، تبرز محفزات موضوعية وملحة قد تدفع – ولو اضطرارًا – نحو البحث عن صيغ للتنسيق العربي، تبدأ من ملفات أمنية واقتصادية محددة، وقد تتطور لاحقًا إلى مسارات تعاون أوسع.

 

فالمخاطر الأمنية الداهمة التي تحيط بدول عربية كبرى، باتت تُحتّم عليها إعادة النظر في حدود أدوارها ومسؤولياتها الإقليمية. السعودية، على سبيل المثال، تعيش قلقًا وجوديًا من التهديد الحوثي المتصاعد، ومن التمدد الإيراني في خاصرتها الجنوبية والشمالية. 

الكويت والبحرين، الدولتان الخليجيتان الصغيرتان المحاطتان ببيئة ديموغرافية وجيوسياسية هشة، تشهدان مخاوف متصاعدة من احتمالات الاختراق والتغيير القسري في هويتهما، ما يجعل من التنسيق الأمني مع دول عربية ذات وزن ضرورة استراتيجية.

 

دور مصر المحوري: من عمق التاريخ إلى ضرورات الجغرافيا

 

وفي هذا السياق، تبدو مصر مؤهلة أكثر من غيرها للاضطلاع بدور محوري في صياغة هذا التنسيق العربي المأمول. فليست مصر مجرد دولة كبرى بحجمها وعدد سكانها، بل هي عمق حضاري وثقافي وتاريخي شكل ركيزة للاستقرار الإقليمي لعقود. وقد كانت، في محطات مفصلية، حامية للأمن العربي، وراعية لمشاريع السلام والاستقرار، ورافعة لحركات التنوير والتحرر في المنطقة.

 

إن دور مصر ليس واجبًا أخلاقيًا فقط، بل التزام وجودي تفرضه التهديدات العميقة التي تواجهها الأمة، وفي مقدمتها مصر نفسها، باعتبارها الدولة المحورية التي لا تملك ترف التفرج على تفكك محيطها العربي. إذ لا يمكن عزل أمنها القومي عن أمن جوارها العربي. وكل تهديد يطال دولة عربية، من ليبيا إلى السودان، ومن اليمن إلى الخليج، سرعان ما يرتد أثره على الداخل المصري، أمنًا واقتصادًا ومكانة. فثمة قوى إقليمية غير عربية – كإيران وتركيا وإسرائيل – تسعى، كل بطريقتها، إلى خلخلة الأمن القومي العربي من مختلف الجهات، عبر استثمار الشروخ والفراغات داخل الجغرافيا العربية، والتغلغل في خاصراتها الرخوة، وبناء نفوذ ممتد من خلال الحروب بالوكالة أو الأدوات الاقتصادية والطائفية والثقافية.

 

ولعل التنسيق الأمني الذي تقوم به مصر مع الجيش السوداني في مواجهة الخطر المشترك، حيث دعمت مصر الجيش السوداني في لحظة فارقة من الحرب، لا حبًا في خوض معركة، بل انطلاقًا من إحساس عميق بأن سقوط السودان في قبضة المليشيات يفتح بوابة الخطر جنوبًا على الأمن المصري. وهو موقف يعكس منطق "الأمن الإقليمي المشترك" الذي قد يُعيد إنتاجه في ملفات أخرى، وعلى رأسها الملف اليمني.

 

من هنا لا يُستبعد أن تلعب مصر، في المدى المنظور، دورًا متقدمًا في دعم استقرار اليمن، سواء عبر أدوات مباشرة أو غير مباشرة، انطلاقًا من إدراكها المتزايد بأن ما يحدث هناك لم يعد شأناً يمنيًا داخليًا، بل تهديدًا استراتيجيًا لأمنها الإقليمي. فتصاعد النفوذ الحوثي في البحر الأحمر، وتزايد عملياته ضد الملاحة، بات يشكل خطرًا حقيقيًا على حركة السفن في مضيق باب المندب، الذي يشكل البوابة الجنوبية لقناة السويس، شريان الحياة الاقتصادية لمصر.

 

إلى ذلك، يرى كثير من المراقبين أن الزيارات التي قام بها الرئيس المصري مؤخرًا إلى أكثر من دولة خليجية، تصبّ ضمن التوجه العام الذي تسعى مصر من خلاله إلى إعادة بناء منظومة عربية تتعامل بجدية مع التهديدات الداهمة. فمصر تدرك أن أمنها الاستراتيجي لا يمكن عزله عن محيطها العربي، وأن المهددات العابرة للحدود، من الانقلابات والفوضى المسلحة إلى التمدد الإقليمي والدولي في مناطق الفراغ، تستدعي تحركًا عربيًا منسقًا تساهم فيه القاهرة بثقلها السياسي والعسكري والدبلوماسي.

 

ومن ثم، فإن الدفاع عن الأمن القومي المصري يمرّ – حتمًا – عبر استعادة الحد الأدنى من التنسيق العربي، وبناء منظومة مصالح ومصير مشترك تعيد تشكيل الجبهة العربية من الداخل، لا باعتبارها ترفًا وحدويًا، بل كضرورة بقاء في زمن التحولات الكبرى.

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي