تقاطعات الحب والسياسة

موسى المقطري
الاثنين ، ٢٠ يناير ٢٠٢٥ الساعة ٠٦:٣٠ مساءً

 

يبدو للوهلة الأولى أن الحب والسياسة عالمان ينتميان إلى أقطاب متناقضة ، فالأول ينبع من القلب، طليق لا يخضع لقواعد، والثاني يحكمه العقل ويخضع لاستراتيجيات معقدة ، لكن عند الغوص في عمق العلاقة بينهما نجد تقاطعات خفية لا يمكن تجاهلها ، فكلاهما يسعى لتشكيل الواقع وبناء العلاقات والتأثير في الآخرين وإن اختلفت الوسائل والغايات .

 

من حيث الأساس فإن السياسة تُحركها قوانين العقل، بينما الحب يُوجهه نداء القلب ، ورغم هذا التباين فإن كلاهما يتطلب نوعًا من التوازن ، فالسياسة بدون عاطفة قد تتحول إلى قسوة مفرطة، والحب بدون عقل قد يؤدي إلى فوضى عاطفية ، والعقل والقلب في السياسة والحب هما جناحا الطائر الذي يحلق نحو النجاح ، وإذا توازنا فإن النتيجة بناء علاقات قوية ومستدامة سواء كانت على المستوى السياسي أو العاطفي .

 

وفق ادبيات السياسة فإن السيادة هي جوهر استقلال الدول ، وتحتفظ كل دولة بحقها في اتخاذ قراراتها بمعزل عن أي تدخل خارجي ، والحب بدوره يمثل سيادة فردية خالصة ، فهو ينبع من داخل الإنسان دون الخضوع لضغوطات أو إملاءات خارجية ، والحب السيادي هو إعلان رمزي لاستقلال القلب عن المنطق ويمثل رفض لفكرة أن المشاعر يجب أن تُبرر أو تُفسر ، وفي الحب كما في السياسة يكافح الأفراد لحماية هذه السيادة من تأثيرات المجتمع والتقاليد وحتى الظروف الاقتصادية .

 

السياسي البارع هو من يمتلك القدرة على إدارة الأزمات والتفاوض على الحلول وتحقيق الأهداف بأقل الخسائر الممكنة ، والعاشق بطريقته الخاصة يمارس فنون السياسة دون أن يدرك ذلك ، ففي كل كلمة يقولها أو وعد يقطعه أو خلاف يسعى لحله يظهر كدبلوماسي مُحنك يدير علاقة دقيقة تحتاج إلى موازنة دائمة بين العاطفة والعقل ، وفي الأزمات العاطفية يظهر العاشق كقائد يسعى لحل الخلافات عبر الحوار والتفاهم ، لكن ليس كالسياسي الذي يعتمد على التحليل الاستراتيجي ، فالعاشق يعتمد على حدسه ومشاعره مما يجعل أفعاله أكثر عفوية وصدقاً .

 

في السياسة تعرّف الدبلوماسية أنها القدرة على إدارة العلاقات بين الدول بمهارة وذكاء ، وهي في الحب القدرة على الحفاظ على انسجام العلاقة العاطفية رغم التحديات أو الخلافات العاطفية ، وهي تماماً مثل الأزمات السياسية ، قد توصل إلى انهيار العلاقة إذا لم تُدار بحكمة ، ومن هنا يبرز دور الدبلوماسية العاطفية واباي تتطلب من العاشق أن يكون مستمعاً جيداً ويُظهر التعاطف والتفهم ، ثم يبحث عن الحلول التي تُرضي الطرفين دون التضحية بالمبادئ الأساسية للعلاقة ، هذا يشبه إلى حد كبير عملية التفاوض السياسي حيث يسعى الأطراف إلى تحقيق مكاسب متبادلة دون خسارة ثقة الشريك .

 

في عالم السياسة الثورة هي تغيير جذري للنظام القائم ، وغالباً بهدف تحقيق العدالة والمساواة ، أما في الحب فتحدث ثورة داخلية تُعيد تشكيل الإنسان من الداخل ، فتتحطم الحواجز النفسية وتختفي الأنانية ، ويُزرع مكانها قيم الإيثار والتضحية ، والحب كالثورة لا يخلو من التحديات ، وكثيراً ما تنشئ ثورة مضادة ، لكن الحب الحقيقي يُعلّمنا أن الحفاظ على المكتسبات بين المحبين يستحق العناء لأنها تُعيد تعريفنا بأنفسنا، وتُظهر لنا قدرتنا على العطاء والاحتمال .

 

في عالم السياسة غالباً ما تُبنى التحالفات على أساس المصالح المشتركة ، حيث تسعى الأطراف لتحقيق أهدافها دون اعتبار كبير للقيم الإنسانية ، أما في الحب، فإن العلاقة تُبنى على القيم والمشاعر الصادقة، التي تُعبّر عن أعمق جوانب الإنسانية ، وفي الواقع هناك تقاطع بين المصالح والقيم في كلا المجالين ، فقد يختار السياسي التحالف مع طرف ما لتحقيق أهدافه ، وكذلك العاشق قد يبحث عن شريك يُكمّله ويحقق معه التوازن المنشود ، ومع ذلك فإن الحب الحقيقي يظل أكثر نقاءً، لأنه يسعى إلى بناء علاقة تقوم على الاحترام والتفاهم وليس على الاستغلال أو المنفعة المتبادلة التي قد تكون مؤقتة.

 

تدرك السياسة الحديثة أهمية القوة الناعمة، التي تعتمد على التأثير الثقافي والإقناع بدلاً من الإكراه ، والحب بدوره يمثل أرقى أشكال القوة الناعمة، لأنه يمتلك القدرة على التأثير العميق في حياة الإنسان دون أي ضغط أو إجبار ، كما أنه يُعيد تشكيل العلاقات الإنسانية بطريقة تُعزز الثقة والتعاون ، ولأن القوة الناعمة تُبني على الجاذبية والإقناع فالحب ينجح في ذلك لأنه يجذب القلوب بلا شروط، ويُحدث تحولًا داخلياً يجعل الإنسان أكثر استعداداً للانفتاح والتغيير .

 

من المعلوم في عالم السياسة أن التحالفات تُبنى على مصالح مشتركة وتُحقق المنفعة للطرفين ، وفي الحب تشكل العلاقة العاطفية تحالف إنساني أعمق ، يقوم على الشراكة الحقيقية ، لكن هذا التحالف يتطلب التزامًا طويل الأمد، حيث يُصبح كل طرف مسؤولاً عن حماية العلاقة ورعايتها ، وقد يواجه هذا التحالف تحديات كبيرة تمامًا كما تواجه التحالفات السياسية صراعات داخلية وخارجية ، لكن الحب الحقيقي قادر على تجاوز هذه التحديات لأنه يعتمد على الإيمان بقيمة الآخر، وليس فقط على الفوائد الملموسة التي يُقدمها.

 

يمثل السلام غاية السياسة المثلى ، على مستوى الدول ، وبالمقابل يمثل الحب الطريق الأصدق لتحقيق السلام على مستوى الأفراد ، الحب يُعلّمنا أن النزاعات ليست حتمية ، وأن التفاهم يمكن أن يحل محل الصراع ، والعلاقات العاطفية الناجحة تُشبه الدول المستقرة حيث تُدار بحكمة وعدالة ، ولذا فالحب والسلام يُكملان بعضهما البعض، لأنهما يعتمدان على نفس المبادئ (التفاهم، الاحترام)، والرغبة في بناء مستقبل مشترك ، وفي عالم يسوده الصراع يُمكن للحب أن يكون رسالة سياسية بحد ذاته، تدعو إلى الحوار والتفاهم والسلام بدلاً من العنف والانقسام .

 

في المجمل فإن الحب والسياسة هما وجهان لحياة الإنسان يعكسان حاجته الدائمة إلى بناء علاقات متوازنة ، ورغم اختلاف الوسائل والغايات إلا أنهما يُشكلان حياتنا بشكل عميق ، الحب يُعبر عن الجانب الأكثر إنسانية فينا بينما السياسة تُدير واقعنا اليومي ، وعندما يتقاطع الحب والسياسة تُصبح الحياة أكثر تعقيداً ، لكنها أيضًا أكثر غنى ، فالحب يُذكرنا بما هو جميل في حياتنا والسياسة تُعطينا الوسائل لتحقيق هذا الجمال ، وسواء رضينا أو أبينا يظل الحب أعظم قوة سياسية لأنه ببساطة يُغير القلوب ومعها يُمكن أن يتغير العالم .

 

دمتم سالمين .

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي