في حين يرفع الإعلام الرسمي شعارات مثل "عام الحسم" و"ساعة الصفر"، نجد أننا نقترب من منتصف عام 2025 دون تحرّك جاد، لأن الضوء الأخضر الدولي – ربما – لم يُمنح بعد، بسبب استمرار خلافات الشرعية وفقدانها للثقة الإقليمية والدولية. والأعجب أن الشرعية تلتزم الصمت حيال مقتل جنودها ومدنييها وصحفييها ومخرجيها الذين يوثّقون جرائم الحوثيين من ساحات المواجهة.
ومن العجائب أيضًا أن الشرعية، عند احتدام المعركة بين الحوثيين والأمريكيين، بدلاً من أن تستغل الظرف لتحرير اليمن من قبضة الحوثيين، نجد نخبها تنطلق إلى اجتماعات مكثفة بالرياض لتشكيل لجنة تُعد تصورًا لمرحلة ما بعد الحوثي، وكأن المعركة قد حُسمت دون أن تصطف هذه القوى للتحرير أولًا!
والأدهى أن الحوثيين، رغم إنكارهم القصف باتجاه مواقع الشرعية، يتهمون الأمريكيين بأنهم هم من يقتلون مؤيدي الشرعية، ويتوعدون بالثأر منهم، في الوقت الذي لم يثأروا فيه لأنفسهم! مشهد عبثي بامتياز.
ويا للأسف، اليمنيون يتأثرون أكثر مما يؤثرون؛ فتجذبهم القصص الأسطورية، والبطولات الفارغة، والخزعبلات، والأكاذيب القادمة من بلاد فارس، وكأنهم يعانون من عقدة مزمنة بالتأثر بالأجنبي تفوق نظيرتها لدى أي شعب آخر.
بلدنا يعيش حالة خلط غريبة؛ الأمريكيون يقصفون، والحوثيون يقصفون، ثم يدّعي الحوثيون أن أمريكا استهدفت المدنيين، كما حدث في استهداف سوق فروة الشعبي بصنعاء، بينما تنفي أمريكا ذلك، ويتهم يمنيون آخرون جماعة الحوثي بالوقوف وراء القصف لخلط الأوراق.
المشاهد تتكرر كما حدث في مأرب مع استشهاد ابن النائب الشيخ منصور الحنق – قائد مقاومة صنعاء – والحطامي، وآل العرادة، وسط تضارب الاتهامات والإنكار وغياب بيانات رسمية تكشف الحقائق وتنهي التضليل.
ومع ذلك، فالأغرب أن الشرعية، رغم تنسيقها الدائم مع الأمريكيين والتقائها شبه اليومي مع السفير الأمريكي، لم تستطع التأثير عليهم لتجنيب المناطق المحررة القصف والاستهداف الأمريكي، الذي بات لا يفرّق بين مناطق سيطرة الحوثيين ومناطق سيطرة الشرعية، على الأقل من باب رفع الحرج عن الشرعية.
فالمُسيّرات الأمريكية لا تزال تهاجم فوق شبوة ومأرب وحتى المناطق الحدودية مع المملكة(العبر) ، موقعةً ضحايا مدنيين. وإذا أضفنا إلى ذلك إنكار الحوثيين لاستهداف مناطق تماس الشرعية في جبهات مأرب وربما كرش، فإن الأمريكيين يُحرجون الشرعية أو قد لا يعيرونها أي اهتمام.
على اليمنيين أن يتوقفوا عن التأثر السلبي، وأن يتحركوا لتشكيل جماعات ضغط وطنية تقتلع هذا العبث من جذوره.
ظاهرة يمنية غريبة... محاكاة أحداث خارجية لا تشبهنا ولا تشبه واقعنا... ففي فلسطين، مثلًا، يناقش الفلسطينيون والوسطاء هذه الأيام مسألة "ما بعد حماس" في غزة، حيث قد تستجيب الحركة حفاظًا على أرواح الغزيين من القتل أو الموت جوعًا، وتسعى لإثبات أنها مقاومة متعففة عن السلطة. أما الحوثيون، فبعكس ذلك، قتلوا كثيرًا لاغتصاب السلطة، وتمسكوا بها حتى رفضوا إشراك المتحالفين معهم. ترى، لماذا تحاكي نخبنا ما يجري هناك وتسعى لتطبيقه في غير موضعه عندنا؟
اليمن سُلبت سلطتها الشرعية بقوة السلاح من فئة سلالية مذهبية غير منتخبة، وتحرك اليمنيون والجيران لاستردادها.
فما الحاجة إلى مناقشة "اليوم التالي للحوثي" الآن؟
وما الداعي لأن تهرع بعض النخب إلى تقليد الآخرين، متوهمةً أن استنساخ التجارب قد يفك العقدة اليمنية أو يخرجنا من حالة الجمود؟
إلا إذا كانت هذه النخب تمتلك معلومات يقينية بأن التأخير في الحسم لن يؤدي إلا إلى الدخول في ترتيبات مرحلة ما بعد الحوثي.
فإن كان الأمر كذلك، فعلى قوى التكتل الوطني للأحزاب أن تتحلى بالشجاعة وتكشف لنا من هم غير المرغوب فيهم، ومن قِبَل مَن!
عندها فقط، دعوا الشعب يقول كلمته، لا أن تُشكّل لجانٌ تبحث عن رؤية وطنية لما بعد الحوثي، بينما عشر سنوات من القتال لم تُنجز خلالها الشرعية وداعموها الاستعادة ولا ما يمكن فعله في اليوم التالي. فلا غرابة إذًا من هذا التأخير وعدم الحسم!
إن مناقشة تصور جديد تعني أن تصورًا سابقًا لم يكن موجودًا أصلًا، أو أن أمورًا استجدت فرضت أمرًا واقعًا جديدًا. فهل يُعقل التسليم به ونحن قد رفضنا محاولة الحوثي فرض الواقع وتمريره على اليمنيين ولا نزال نقاومه؟
وإن أُنجز التصور الجديد، فسيفتح مزيدًا من الانقسامات الداخلية، ويعمق فجوة الثقة بين المكونات الوطنية، وبينها وبين التحالف والجيران، ونحن في غنىً عنها، في حين أن الموضوع – من المفترض – قد حُسم منذ انطلاق عاصفة الحزم، لا أن يُناقش مجددًا اليوم.
ولهذا نشهد لقاءات القوى السياسية في الرياض، حيث عقد المجلس الأعلى للتكتل الوطني للأحزاب والمكونات السياسية اجتماعًا برئاسة الدكتور أحمد عبيد بن دغر، لمناقشة مستجدات المشهد الوطني وخطوات العمل المقبلة. وقد أقر المجلس استمرار اللقاءات مع القوى الإقليمية والدولية لدعم خيار استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب، والالتزام بالحل السياسي القائم على المرجعيات الثلاث.
وقد أقر الاجتماع ايضًا تشكيل لجنة من ذوي الخبرة لإعداد تصور شامل لمرحلة ما بعد الانقلاب!!
والمفروض أن تختفي هيئة التشاور والمصالحة والتكتل الوطني للأحزاب والمبعوث الأممي عند لحظة الاستحقاق والحسم، ويظهر بدلاً عنهم مجلس الدفاع الوطني، وبعد الحسم آن لهم الظهور إن أرادوا!
أرأيتم أين لا زلنا واقفين؟
أرأيتم كيف أصبح مصيرنا؟
أرأيتم كيف لا تزال الشرعية ومكوناتها تائهة رغم كل الفرص المتاحة؟
مطلوب أن تكون شرعيتنا ونخبها مؤثرة بنموذج يُستنْسخ وينقل، لا أن تكون متأثرة أو رهينة لمشاريع ومصالح دول أخرى.
إن فرصة إنهاء الانقلاب الحوثي سانحة اليوم، لكنها لن تكون في متناول المشتتين والمترهلين، بل سيقتنصها أولئك الذين يتوحدون حول هدف وطني واضح.
فلتكن هذه اللحظة بدايةً لوعيٍ جديد، يجمع اليمنيين حول مشروع إنقاذ وطني شامل، يقطع زمن التبعية والانقسام، ويفتح الطريق لبناء وطن اتحادي قوي، حر ومستقل... وطنٍ يفرض تأثيره بدلاً من أن يبقى أسير التأثر بالغير.
الرحمة والخلود للشهداء،
والخزي للمتنازعين الذين يختلفون حتى في ذروة خلاف العالم مع الحوثيين.
-->