ونحن على أعتاب تحول كبير في الأزمة اليمنية، من الانقلاب الحوثي، وما قام به من تدمير للبلاد، وربما نشهد فتحاً كبيراً لصنعاء، نعود لأفضل صفحات التاريخ بياضاً وإشراقاً ونموذجاً في أحداثها، نستلهم منها الدروس والعبر والعظات، والرؤية والتعامل مع الأحداث.
ثمة محطات تاريخية هامة تكون مفصلية في الأرض، وفي تاريخ الإنسانية، تحدث تحولات عصرية كبيرة، ونقلات نوعية للإنسانية بشكل عام، كحال فتح مكة، وفتح القسطنطينية.
ولا شك أن لهذين الفتحين عيوناً نورانية للبشرية، لم يكونا بالحدثين السهلين لأصحابهما، حتى وإن قلل البعض من شأن فتح مكة الذي اعتبره بعض مرضى النفوس هو عبارة عن انتصار جزئي قبلي ضد أناس لا يفقهون الحرب، كما قيل قديماً ويردد حديثاً، فما ترتب عنه هو تغير في الحياة البشرية في كل الكرة الأرضية. فقد كان من أهم نتائجه دخول الناس في الإسلام أفواجا، وانتقل من مرحلة الجزيرة إلى بقية الأمصار في الشام واليمن، وارتفع عدد المسلمين من عشرة آلاف يوم الفتح إلى مائة ألف يوم الحج الأكبر مع النبي –صلى الله عليه وسلم-.
ثمة عوامل مشتركة بين الفتحين من حيث الوسائل والتخطيط والتجهيز، والغاية، ولا بد من توفرها مع أية معركة أو قائد، وثمة عناصر لا يمكن تحقيق النصر والفتح إلا بها، ولا تقوم الدول إلا بها، ولا تنجح المشاريع إلا عبرها، وهي الحامل الأساس للفتوحات العظيمة والنهوض الحضاري، وهي خمسة عشر عنصراً شاملاً، وقد يُصطفى منها خمسة عوامل هي الأهم، وهي على النحو التالي:
1- المشروعية:
وهي الغرض الإيجابي من الفتح ليس بقصد العدوان بل يكون لها مقاصد إيجابية وأخلاقية مختلفة كإنهاء أزمة، أو تخليص مظلومين، أو القضاء على الظلم، أو إنهاء تهديد للدولة. ويمكن أن نسميها الأسباب أيضاً، ولا بد أن تكون هذه الأسباب مشروعة وعادلة ووجه حق؛ إما خلاصاً للمسلمين المظلومين المقهورين، وإما رداً للعدو الصائل، وإما إنفاذاً للحق وتطبيق الاتفاقات والعهود والمواثيق.
ففي فتح مكة مثلاً فقد كان سبب الفتح ومشروعيته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقعوا اتفاق صلح الحديبية على شروط معينة وعلى أن لا يغدر أحد بالآخر ولا بحليفه ولا يعتدي عليه؛ فكان أن تم الاعتداء على حلفاء النبي –صلى الله عليه وسلم- وهم خزاعة من قبل بني بكر بن وائل ومساعدة قريش لهم، ونكث الاتفاق من قبل قريش، والذين نكثوا العهد والصلح تقريباً هم أولئك الذين أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بقتلهم ولو وجدوا معلقين على أستار الكعبة.
وقد حرص الرسول -عليه الصلاة والسلام- على الوفاء بالعهد في أشد الظروف حرجاً وصعوبة، وأعاد أبا بصير إلى قريش، وأعاد أبا جندل إلى قريش وفاءً بالعهد وانفاذاً للاتفاق؛ فالغدر ليس من صفات النبيين وأتباعهم. لكن عندما ينقض العدو العهد، ويستبيح حمى النبي –صلى الله عليه وسلم- ، ويعتدي على حلفائه، فلا مجال إلا للعقوبة الرادعة، وتطبيقاً لقول الله تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ* أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ* قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}التوبة12، 13، 14
فماذا نقول اليوم عن الإرهابيين الحوثيين الذين نكثوا أكثر من 120 اتفاقاً وعهداً، واعتدوا على الحرمات وعلى اليمنيين وهم مسلمين وإخوانهم في الدين والوطن؟
ماذا لو كان مجود اليوم بيننا الرسول -صلى الله عليه وسلم- كيف سيتعامل معهم؟!
إذاً فمشروعية قتالهم موجودة دون تردد ولا تخوف ولا حرج من مؤاخذة دينية فقهية؛ فهم معتدون، ناكثون للعهود، غدارون، لا يلتزمون بعهد ولا ميثاق!
2- القيادة:
وتأتي القيادة العامة على رأس كل عوامل الفتح والنصر والبناء والإعداد والمشروع والمشروعية، وكل شيء، وليس شرطاً أن يكون نبياً مرسلاً، وهنا نتحدث عن القيادة بشكل عام وليس عن قيادة فتح مكة فقط؛ فلولا القيادة لا يوجد شيء اسمه جيش، وإنما رعاع من الناس. فالقيادة التي تمتلك البصيرة والشجاعة والهدف والإخلاص (الوطنية بمصطلح اليوم)، وحب الشعوب تكون هي القيادة المؤهلة لإقامة الدول، وصناعة التاريخ، وإحداث التحولات الكبرى، خاصة إن كانت تمتلك المشروع الذي تقاتل من أجله؛ إما صد عدوان، أو نصرة مظلوم، أو طموح توسع وبناء دولة قوية.
وهناك صفات ومؤهلات لهذه القيادة التي قد لا تكون مثالية 100% وإنما يغلب عليها الإيجابية، ومن هذه الصفات: الشجاعة، الطموح، الرؤية، القدوة، المشروع، المشروعية، الذكاء، الحلم، التضحية، الثبات، الرأي، عدم التردد، الفتوة والشباب، فغالباً صانعو التحولات التاريخية والعظيمة هم من فئة الشباب المغامر؛ فكبير السن يغلب عليه التردد والأناة الكثير الذي يفقد معه الفرص ويضيع معه الوقت، ويفقد معه عنصر المباغتة، ولا يقدم إلا إن تأكد من عدم الخسارة، وهذا ليس وارداً في الجيوش العظيمة والفاتحة.
فهناك مؤهلات للقيادة قبل مؤهلات الأفراد، بل إن مؤهلات القيادة أشد احتياجاً للتأهيل منه إلى الأفراد؛ فهي رأس الحربة، ورأس الأمر كله، بها ينتصر المشروع وبها ينهزم.
لم ينهزم اليمنيون أمام الانقلاب الحوثي منذ عام 2004 وحتى اليوم إلا بسبب انهزام القيادة وعدم كفاءتها، ومخاتلاتها السياسية، وتربصاتها ببعضها، وإكاء الصراعات البينية، وتصفية الحسابات الأنانية الضيقة على حساب الوطن الأم، وعدم المضي الحقيقي في طريق الإعداد والنصر وإنهاء مهددات الدولة وبتر علتها منذ البداية.
لذلك صار اليوم الأطفال اليمنيون يدركون علتنا وعوامل ضعفنا في عدم وجود قيادة حقيقية تقود اليمن إلى الخلاص، وإخراج اليمن من مرحلة التيه هذه.
ليس فقط علة قيادة الدولة؛ بل حتى علة قيادة الأحزاب، والنخب المجتمعية بشكل عام.
3- تحديد الهدف:
حدد النبي -صلى الله عليه وسلم- الهدف، وهو فتح مكة ولا شيء دونه، وعدم الوقوف عند منتصف الطريق، ولا مجال للمساومة والتراجع وأنصاف الحلول، وتحقيق بشرى الله لنبيه في القرآن الكريم {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}الفتح27.
فبناءً على هذا الهدف يترتب مستقبل الأمة، والتحول إلى مرحلة النهوض الشامل للدولة، والتوسع خارج المحيط، وكسر العزلة، وتحقيق عالمية الرسالة.
4- الإصرار والعزيمة:
حينما حدد النبي -عليه السلام- هدفه وهو فتح مكة، حدده بإصرار دون مواربة أو تلكؤ، أو تردد، أو مفاوضة عليه، ولم يجرؤ أحد من الصحابة مراجعته في ذلك أو الاقتراح عليه ببديل، أو الشفاعة لكبراء مجرميها، كما كان الحال مع كبار الصحابة حينما استنجد بهم أبو سفيان للتوسط عند الرسول، وكلهم أعرضوا عنه وأغلظوا له القول، وهنا كان عزم القيادة الذي لا يلين. وهذا ما أشار إليه علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- في حديثه مع أبي سفيان، فقال له: "ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه"!
وهو تطبيق للمبدأ القرآني والتربية الروحية للصحابة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً}الأحزاب36
5- إمتلاك المعلومة:
وهذه أصبحت اليوم على رأس عوامل النصر؛ فهي التي تؤدي إلى التخطيط السليم، وتقليل الخسائر، وتحقيق المكاسب، واتخاذ التدابير المناسبة، ومعرفة العدو؛ حجمه وعدد جيشه، وقوته، قدرته، سلاحه، استعداده، تدريباته، وجهته، عوامل قوته وعوامل ضعفه...إلخ.
ولا تأتي هذه المعلومات إلا عن طريق بناء جهاز استخباراتي محكم هو مصدر تأمين الداخل والعيون على الخارج، ويمكن أن يكون هذا الجهاز هو من خلاصة المجتمع، ويكون بدرجة عالية من الوعي والفقه، وقد سمى الله –سبحانه وتعالى- هذا الجانب بالفقه الديني، كما قال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}التوبة122
في وقت الحروب يوجه القرآن المسلمين، أو القادة وأصحاب الأمر، إلى أنه لا ينبغي لكل الناس النفير إلى المعركة، بل يكون جزء منهم متوجهاً إلى العلم والمعرفة بغرض الإحاطة بالمعركة من كل جوانبها ومجالاتها، وهذه الفرقة التي تنفر إلى العلم الذي وصفه القرآن بدقة (بالتفقه في الدين) هو فقه الأحداث والمقاصد والنتائج المعنوية للمعارك، الغاية منها (لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، فما العلاقة بين الفقه والمعركة؟
وقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يتتبع كل معلومات قريش عن طريق عيونه، أو من يأتي منها إلى المدينة من عابري السبيل، مع أنه نبي يوحى إليه إلا أنه لم يترك العمل بالأسباب الدنيوية.
وبدون امتلاك هذه المعلومات لا يمكن تحقيق بقية العناصر، ولا السبيل إلى النصر.
فلو طبق اليمنيون اليوم هذه المبادئ لما أصبحوا إلا في العاصمة صنعاء، وقد استردوا عاصمتهم، وأمنوا مواطنيهم.
... يتبع
-->