يبدو أن واشنطن قررت أن تصنيف الجماعات والمنظمات بات لعبة سياسية مزاجية، أشبه بقائمة الطعام في مطعم أمريكي: نُدرج من لا يعجبنا في "قائمة الإرهاب"، ونُخرج من نرغب في التقارب معه متى شئنا، بلا سبب واضح ولا مبرر منطقي. فبعد أن كانت جماعة الحوثي "إرهابية خطيرة" تهدد الأمن الإقليمي والمصالح الأمريكية، أصبحت فجأة "غير إرهابية"، محبة للسلام، زاهدة في القتال... لا لأن سلوكها تغيّر، بل لأن السياسة تتطلب ذلك، لا القانون ولا الأخلاق.
الأدهى أن مؤشرات السياسة الأمريكية الأخيرة توحي باحتمال إزالة الحوثيين من قائمة الإرهاب، رغم تصعيدهم الممنهج، الذي يشمل: عدم إطلاق الأسرى والمحتجزين، تشديد الحصار على بعض المدن مثل تعز، الامتناع عن توقيع خارطة الطريق، منع تصدير النفط اليمني، التحشيد العسكري، التصرفات الأحادية في النظام المصرفي، ناهيك عن التصعيد في البحر الأحمر الذي يهدد الملاحة الدولية، بل ويسهم في تدمير البنية التحتية اليمنية بإرسال صواريخ مشهورة أصبحت تُحدث "حفرًا...!
فهل هذا هو السلوك الذي يُكافأ؟ أم أن واشنطن تهمس للعالم: "نحن نحتكر الحق في التعريف، ولو خالفنا الواقع والمنطق والعقل والقانون الدولي"؟
المشكلة ليست فقط في المزاج السياسي، بل في غياب المعايير الثابتة. فأمريكا التي تتشدق بالديمقراطية وسيادة القانون، تضرب قوانينها عرض الحائط حينما تتوهم إداراتها أن ذلك يخدم مصالحها، متجاهلة جرائم موثقة لجماعة الحوثي، مدفوعة ربما بصفقات تحت الطاولة، أو مساومات إقليمية تتجاوز حدود اليمن وشعبه.
في خطوة تثير الكثير من التساؤلات وتكشف حجم التناقض، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في مؤتمر صحفي مع رئيس وزراء كندا، عن اتفاق لوقف إطلاق النار بين القوات الأمريكية وجماعة الحوثي في البحر الأحمر، تمّ برعاية سلطنة عُمان وتسهيلات مباشرة من قيادتها، وهو ما يُعد خرقًا واضحًا وانتهاكًا صريحًا للأمر التنفيذي الصادر عن إدارته في 23 يناير 2025، والذي أعاد تصنيف الحوثيين كـ"منظمة إرهابية أجنبية"، بهدف تشديد القيود القانونية والمالية عليهم بعد تصعيد هجماتهم البحرية إثر الإبادة المستمرة في غزة منذ 2023.
وقد ألغت إدارة بايدن هذا التصنيف سابقًا بدعوى "الاعتبارات الإنسانية"، ثم أعاده ترامب في رسالة مفادها تبني نهج أكثر تشددًا، إلا أن الاتفاق الأخير يناقض ذلك التوجه، بل ينسفه.
القانون الأمريكي ينص صراحة على أن أي تعامل مباشر أو غير مباشر، مادي أو لوجستي أو سياسي، مع جماعة مصنّفة كإرهابية يُعد جريمة يُعاقب عليها القانون الفيدرالي. ومع ذلك، توجه مبعوث رسمي من إدارة ترامب إلى سلطنة عمان، حيث التقى بممثل جماعة الحوثي محمد عبد السلام – أو تسلّم منه رسالة – وتم التوصل إلى اتفاق معلن برعاية عمانية، دون أن تتحرك وزارة الخزانة الأمريكية أو أجهزتها القضائية.
الأغرب أن بيان وزارة الخارجية العمانية أشار إلى أن الاتفاق تم "بين أمريكا وسلطات صنعاء المعنية"، متجاوزًا بذلك المصطلحات الخليجية والعربية التي تصف الحوثيين بالجماعة الانقلابية. وهو أمر يستوجب ردًا رسميًا من السلطة الشرعية.
من هنا، أطالب الشرعية اليمنية باستدعاء السفير العماني واستيضاح ما تم، والمطالبة بتصويب البيان والاعتذار عن وصف جماعة إرهابية بأنها "سلطة معنية".
كما يجب أن تُخاطب الشرعية الإدارة الأمريكية لمطالبتها باحترام قوانينها وتصنيفها الرسمي، وعدم مكافأة التمرد والإرهاب بالمفاوضات والاتفاقات.
إذ إن مصادر دبلوماسية وصفت ما جرى بأنه "اتفاق عسكري مباشر"، ليس أكثر، لكنه بمثابة اعتراف أمريكي بكيان سياسي متمرد. ولعل اللافت أن ترامب نفسه عبّر عن إعجابه بالحوثيين، واصفًا إياهم بـ"الشجعان" لأنهم – على حد تعبيره – توقفوا عن مهاجمة السفن الأمريكية. وأضاف أن الجماعة أبدت رغبتها في السلام عبر الوسيط العُماني، ما دفع البيت الأبيض لإصدار أوامر فورية بوقف العمليات العسكرية الأمريكية في البحر الأحمر.
هذا "الإعجاب" المفاجئ لم يكن مجرد ثناء عابر، بل بدا كمقدمة لإعادة رسم العلاقة بين واشنطن والجماعة الحوثية الارهابية ، خارج الإطار القانوني الذي فرضته أمريكا نفسها، وخارج قرارات مجلس الأمن.
وعلى الدبلوماسية اليمنية أن تتحرك بفاعلية لمعالجة هذا الانزلاق السياسي. وإن كانت التعيينات الدبلوماسية الجديدة في واشنطن قد ساهمت في إحداث هذا التراخي – كما يرى البعض – فلتُراجع. أما إن لم يكن الأمر كذلك، فعلى المعنيين أن يُثبتوا جدارتهم بالوقوف بحزم لإقناع واشنطن بدعم الشرعية اليمنية، لا بتركها تتاجر مع الخصوم.
في المقابل، عبّر الحوثيون عن ارتياحهم للاتفاق بنبرة الانتصار وهزيمة أمريكا، بلغة لم تستوعب التدمير الذي حصل بعد؛ إذ صرح محمد عبد السلام بأن الاتفاق لا يشمل (إسرائيل)، بينما قال مهدي المشاط إنهم أبلغوا واشنطن أن استمرار التصعيد سيؤثر على زيارة ترامب للمنطقة. وهو تصريح تهديدي يعكس مستوى غير مسبوق من المقايضة والابتزاز السياسي.
بل، لقد تفاخر بعض الحوثيين بأنهم استطاعوا أن يحيّدوا أمريكا عن إسرائيل! أيّ غباء عند هؤلاء؟ فمن يحمي الكيان الصهيوني في إبادته لغزة؟ وذخيرة مَن تسقط فوق رؤوس إخوتنا في قطاع غزة؟
اليوم، من المعتاد أن يظهر عبد الملك الحوثي بخطبة؛ وأتوقع إن ظهر أن تكون خطبته باهتة لا قيمة لها... تُرى، ما عساه يقول؟ وقد أذعن لترامب! لم تعد أهدافه تشمل استهداف كل السفن المتجهة والآتية من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل اقتصرت على السفن (الإسرائيلية) فقط، كمقدمة – ربما – للسماح لها مستقبلًا... فما عساه سيقول ليضمن تحشيد الجمعة كما يزايد كل خميس؟!
أما الجانب (الإسرائيلي)، فقد عبّر عن غضبه مما وصفه بـ"تجاوز غير محسوب"، خصوصًا أن الاتفاق تم دون علم أو تنسيق مسبق مع تل أبيب. وقد تسبب ذلك بصدمة سياسية وإعلامية لرئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو، وأثار تساؤلات حول مستقبل التحالف الأمريكي-الإسرائيلي. وقد عبّر نتنياهو بأن له اليد الطولى تمتد إلى الحوثيين وإلى أبعد منهم ومستعدون للدفاع عن أنفسهم بمفردهم لو تخلت أمريكا عن التنسيق– ويا رب أن يكون تهور الحوثي ونتنياهو خارج اليمن، بعيدًا عمّا تبقى من بناه التحتية وعن كل اليمنيين!
ختامًا...
إن ازدواجية المعايير الأمريكية، إن لم تُواجه بموقف دبلوماسي واضح وحازم من الشرعية اليمنية والدول العربية، فستتحول إلى سياسة دائمة تُعمّق الفوضى وتُكافئ التمرد.
فما حدث ليس مجرد تناقض سياسي، بل انزلاق خطير يستوجب الوقوف عنده بجدية.
لقد آن الأوان للشرعية أن تُعبّر عن موقفها بصوت عالٍ:
لا لمكافأة الإرهاب تحت أي مبرر، ونعم لاحترام القانون، والسيادة، وإرادة الشعوب التي تمثلها سلطاتهم الشرعية!
-->