يروج بعض الحوثيين لفكرة أن حاملة الطائرات الأمريكية "هاري إس. ترومان" قد خرجت عن الخدمة في أيامها الأولى بالبحر الأحمر، ويتحدّون أمريكا أن تُظهر صورها وتوقيت وجودها؛ فمن يتحدّى عليه أن يُثبت ادعاءه، يا مدّعين!
ويزعمون أن إعلان تبديلها لم يكن إلا لإخفاء الفشل، معتبرين ذلك "هزيمة أمريكية". وقد تماهت بعض التصريحات الأمريكية مع هذا الطرح تحت عناوين مثل "إعادة الانتشار" أو "تغيير التموضع" وفقًا لطبيعة المهام.
أما قناة الجزيرة، فقد أصبحت هذه الأيام "ملكية أكثر من الملك"، إذ تجاوزت قناة المسيرة بمراحل، فتعرض الحوثيين منتصرين، وتكرر مرارًا خبر اعتراف أمريكا بإسقاط سبع طائرات مسيّرة من طراز "إم كيو-9" المتطورة خلال شهر واحد فقط، مع تبرير أمريكي بأن ذلك يعود إلى تكثيف استخدامها، واستخدام الحوثيين لصواريخ إيرانية حديثة لاعتراضها، فضلًا عن تزوّدهم بمعلومات استخباراتية إيرانية.
وفي هذا السياق، نقلت عن مسؤول أمريكي أن الإدارة الأمريكية تدرس التصعيد والانتقال إلى مرحلة جديدة؛
فهل انفجار بندر عباس - الشبيه بانفجار مرفأ بيروت - يدخل ضمن التصعيد؟ وهل هو من تنفيذ أمريكا أم أن نتنياهو تطوّع وساند الرئيس ترامب فيه؟
وبيّنت الجزيرة أن هناك سيناريوهين: التصعيد أو توقيف العمليات، مع منح سيناريو التوقيف حيزًا واسعًا لتحليلات الخبراء، بينما أُشير إلى أن التصعيد قد يشمل تسليح الجيش الوطني ودعم الحكومة اليمنية لشنّ هجوم بري، فيما يخفي هذا التحليل كثيرًا من الألغام.
ورغم هذا التكثيف الإعلامي، فإن قراءة معمّقة للمشهد تُظهر أن ما حدث بشأن "ترومان" – إن صحّ – لا يعدو كونه جزءًا من استراتيجية أمريكية أوسع لإعادة توزيع القوى في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
وبغض النظر عن رسائل الجزيرة في تكثيف نقل أخبار الحوثيين وعملياتهم، فمن المؤكد أن كثيرًا من أتباع الحوثيين يؤمنون بسردية أن "الحوثي هزم أمريكا"، ويمنحون زعيمهم قدرات خارقة تمكّنه - في اعتقادهم - من تعطيل الأقمار الصناعية، وتجاوز أنظمة الدفاع الأمريكية، وإجبار ترسانتها على الانسحاب تحت "ضرباته".
ويعزز الإعلام الحوثي هذه الرواية عبر مشاهد دعائية وزوامل تمجّد إسقاط الطائرات الأمريكية بدون طيار "إم كيو-9"، واصفين إياها بأنها "بورت" (عديمة القيمة)، مرددين خطاب "الهروب الأمريكي" بلغة عاطفية ودينية بعيدة عن الواقع العسكري والمنطقي.
هذه المعتقدات تشكّل فرصة حقيقية للشرعية لإحداث اختراق ما، كما تؤكد أن الحوثي، بادعائه الكاذب، لا يبحث عن نصر مطلق، بل عن دعاية تبقيه حاضرًا باستمرار في المشهد، محافظًا على أتباعه المؤمنين به حد التقديس والتأليه.
والواقع المُرّ أن البوارج الأمريكية لم تكن لتدخل البحر الأحمر بهذه القوة، لولا تهديدات الحوثي وعمليات القرصنة التي مارسوها مع قراصنة القرن الإفريقي، فضلًا عن استهدافهم السفن التجارية المتجهة نحو فلسطين المحتلة بعد عملية "طوفان الأقصى"، مما سرّع التدخل العسكري الأمريكي الكبير بعد عودة ترامب للرئاسة.
ورغم الحديث عن قرب مغادرة "ترومان"، فإن الولايات المتحدة لا تزال مستمرة في عملياتها في اليمن وعلى امتداد البحر الأحمر، عبر قواعدها العسكرية وعملياتها الجوية والبحرية، بالإضافة إلى حاملات طائرات أخرى مثل "كارل فنسن"، مما يؤكد استمرار قوتها العسكرية بعكس ما يروج له الحوثيون.
في المقابل، لا يزال الحوثيون يستخدمون إطلاق الصواريخ والطائرات المسيّرة كرسائل دعائية، غالبًا ما تتزامن مع خطب عبد الملك الحوثي الأسبوعية، بغرض تعبئة أنصارهم للجُمَع، دون أن تحقق هذه العمليات أي نتائج استراتيجية تُذكر، لا لغزة ولا لليمن.
لكن ما يدور في البحر الأحمر يتجاوز هذه المناوشات؛ فالإقليم يشهد سباقًا محتدمًا بين القوى الدولية لإعادة ترتيب النفوذ. فبينما تعزز واشنطن حضورها العسكري، بدأت إيران تقلص وجودها الاستخباراتي والبحري، خاصة مع تصاعد التهديدات ووجود القوات الأمريكية المكثف قرب باب المندب، ومع بدء مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين.
وتشير تقارير استخباراتية، منها ما نشره "معهد نافال وور كوليدج" ومجلة "فورين بوليسي" مطلع عام 2025، إلى أن إيران سحبت بعض سفنها مثل "ندجة"، وانخفضت أنشطة السفن الاستخباراتية مثل "سافيز" و"زاغروس"، التي كانت توفر الدعم اللوجستي والاستخباراتي للحوثيين.
وفي تحول استراتيجي لافت، عرضت الحكومة الصومالية على الرئيس ترامب منح واشنطن سيطرة حصرية على خمس منشآت حيوية، أبرزها قاعدتا "بليدوجلي" و"بربرة"، وميناءا "بوصاصو" و"بربرة"، في خطوة تهدف إلى تعزيز التوازن الجيوسياسي في الضفة الإفريقية للبحر الأحمر.
كما أن تنامي النفوذ الروسي والصيني في سواحل البحر الأحمر، لا سيما في السودان وجيبوتي، يقلق الغرب ويدفعه إلى تكثيف حضوره، ضمن سباق للسيطرة على الممرات البحرية الحيوية، ولإبطاء تقدم مشروع الصين الضخم "الحزام والطريق"، الذي يمثل نسخة محدثة لطريق الحرير القديم.
ميدانيًا، تواصل الولايات المتحدة تنفيذ عمليات عسكرية دقيقة مثل "الفارس الخشن"، باستخدام قاذفات B-2، مع تعطيل شبكات تمويل الحوثيين، والضغط سياسيًا لإعادتهم إلى طاولة المفاوضات، ضمن مساعٍ أممية يديرها المبعوث الأممي تحت شعار "إحياء المسار السياسي في اليمن".
وتظهر بعض المؤشرات التراجعية لدى الحوثيين بعد لقاء ممثلهم بالمبعوث الأممي، إما كتقية، أو كدليل على الجنوح للعاصفة، في ظل الضغوط الدولية والمبادرات الأممية الرامية إلى تجنيبهم الانهيار السياسي.
المشهد إذًا لا يتعلق بـ"ترومان" أو "عبد الملك" فحسب، بل هو صراع نفوذ دولي معقد، تسعى فيه واشنطن إلى إعادة تموضعها الجيوسياسي، وتوجيه رسائل واضحة لإيران وروسيا والصين، والحد من نفوذ وكلائهم.
أما الحوثيون، فهم أداة ضمن هذا الصراع، لا يمتلكون موقعًا أصيلًا فيه. وقد يحظون ببعض المكاسب في تسوية يمنية قادمة، لكنهم ليسوا شركاء في رسم خارطة الأمن في البحر الأحمر.
ختامًا...
على مجلس القيادة الرئاسي والحكومة اليمنية أن يتصرفوا بجدية عبر:
تبني استراتيجية وطنية للأمن البحري تُعيد للدولة اليمنية دورها المحوري في تأمين البحر الأحمر.
عدم الدخول في أي مفاوضات مع الحوثيين قبل تحييد الوظيفة العامة، والبنك المركزي، واستئناف تصدير النفط دون ممانعة، مع ضرورة دعم العالم للحكومة الشرعية لضمان أمن البحرين الأحمر والعربي.
بناء قدرات الجيش وخفر السواحل اليمنية بالتعاون مع الشركاء الدوليين لضمان السيادة البحرية.
تعزيز العلاقات مع دول القرن الإفريقي لتشكيل تحالفات أمنية تكبح التمدد الحوثي - الإيراني.
وأخيرًا:
من "ترومان" إلى "بربرة"، ومن باب المندب إلى "بوصاصو"، يتشكّل ميزان قوى جديد في البحر الأحمر...
فهل يدرك اليمنيون حجم هذا التحول الذي يُقصيهم عن التأثير في موقعهم الاستراتيجي وفي محيطهم؟
وهل هناك مجال لاحتواء مغامرات الحوثي، أو لإنهاء مشروعه الانقلابي؟
أم سيبقى اليمنيون متفرجين على من يصوغ أمنهم؟
-->