الرئيس وعشّ الدبابير!

د. علي العسلي
الثلاثاء ، ٠٦ مايو ٢٠٢٥ الساعة ٠١:٢٠ مساءً

 

في اليمن، من يدخل "عشّ الدبابير" – أو كما يُقال في اللهجة المحلية "بيت الحُرّاب" – يضمن البقاء طويلًا، بل وقد يورِّث السلطة والثروة لأبنائه وأحفاده! فمجلس النواب، على سبيل المثال، ما يزال قائمًا بأعضائه لأكثر من عقدين، دون تجديد أو تداول سلمي للمناصب. وينطبق الأمر ذاته على العديد من الوزراء وقيادات المؤسسة العسكرية، حيث يرسّخ البعض مواقعهم وكأنهم مالكون أصليون، محصّنون من أي تغيير.

يُقال إن دعاء الأمهات هو سرّ بقاء هؤلاء في مناصبهم، فسامحهن الله! فقد كانت دعواتهن صادقة لأبنائهن، لكنها – دون قصد – أسهمت في إدامة الظلم على الأجيال القادمة، لأن هؤلاء المسؤولين لم يلتزموا بواجباتهم الدستورية، ولا أدّوا أماناتهم كما يجب، بل تشبّثوا بالكراسي أو ثُبّتوا فيها، حتى ظنّ الشعب أنها إرثٌ شخصي لهم.

في هذا "العش"، يتحصّن المسؤول، ويتفرعن، ويُسترضى حتى لو كان ذلك مخالفةً للدستور والقانون. ومع مرور الزمن، بات الوصول إلى المناصب يتم عبر الاستقواء بالخارج، لا بالكفاءة أو الالتزام الوطني. لكن ما إن تتغيّر مصالح ذلك الخارج، حتى يُترك المسؤول لمصيره، فيُقال مرفقًا بتحقيق لا يُستكمل – فقط للإهانة – أو يُجبر على الاستقالة، ويشتكي في خطابها من تقييد صلاحياته.

والمفارقة المحزنة أن الدستور لا يُستحضر إلا لحظة الإقالة أو الاستقالة، أما عند التعيين، فلا محل له من الإعراب؛ فالمحاصصة والترضيات السياسية هي السائدة. لقد صار العبث بالدستور سمة بارزة؛ تُعدَّل مواده وفق أهواء الحاكم دون استفتاء، وصار "الترقيع" هو القاعدة، بينما الدستور والقانون هما الاستثناء.

لكن هذا الترقيع أحيانًا ينقلب على صاحبه، فيتحول بعض من تم ترقيع وضعهم إلى "لسعة" للمُرقّع، ومصدر نقد وإحراج. نُشير هنا إلى حالتيْن بارزتيْن:

أولاهما الدكتور أحمد عوض بن مبارك، الذي – كما يُقال – دخل في خلافات مع من عيّنه عقب تسلّمه منصبه، واستمر فيه رغم الأزمات المتكررة داخل الأمانة العامة ومكتبه، وتمرد بعض الوزراء عليه، دون أن ينجح في احتوائها أو معالجتها. وقد سنحت له فرصة مناسبة للاستقالة عندما تمرّد عليه عدد من الوزراء وعطّلوا اجتماعات مجلس الوزراء، لكنه لم يُقدم على ذلك في حينه، بل جاءت استقالته لاحقًا، بعد اطلاعه على نتائج اجتماع مجلس القيادة الرئاسي الذي خُصص لتغييره.

أما الحالة الثانية، فهي السفير مصطفى نعمان، الذي عُيِّن مؤخرًا نائبًا لوزير الخارجية بشكل ترقيعي، وصارت تصريحاته تُحسب على السلطة الشرعية، رغم ما تتضمنه من ضرر بمركزها القانوني، وإرباك للرأي العام الداخلي والخارجي، ما جعل من قام بتعيينه محلّ انتقاد.

ومع كل أزمة، تُعالَج الأمور مجددًا بالترقيع؛ فقد جاء تعيين الأستاذ سالم بن بريك رئيسًا للوزراء كرد فعل على تلك الأزمات، دون اتباع الإجراءات الدستورية الواضحة. وليس ذلك بسبب غياب الاحترام للدستور، بل لأن الرئيس – كمن سبقه – يدرك أن «عشّ الدبابير» إذا نُكِش، فإن الذي عَيَّن سيصيح: «لقد لسعني الدبور!». وبوجه عام، يلجأ المرقِّع إلى التهدئة والترميم، لا إلى المواجهة مع من يتحصنون داخل عشّ الدبابير.

والحقيقة أن أي تفعيل حقيقي للدستور سيُخرج المنتفعين من ذلك العش، وهو ما سيؤدي إلى صراعات شرسة، وتضارب مصالح، ومحاصصات جديدة. ولهذا، يُفضّل الرئيس السير بحذر، مراهنًا على التوازنات، لا على الحسم.

فالمناصب في بلادنا أصبحت مغنمًا لا مغرمًا، وإن فُتح باب تشكيل الحكومة، فقد يستمر لعام أو أكثر، وتجربة لبنان خير شاهد! وهذا الواقع يجعل النخب السياسية تتصارع وتكيد لبعضها البعض، لتأمين البقاء داخل هذا العش، أو دخوله إن استطاعت.

ورغم هذا المشهد القاتم، فإن بارقة أمل واحدة قد تُشعل حماس الشعب اليمني، الذي لا يزال – رغم الجوع، وانعدام الخدمات، وتدهور الرواتب – قادرًا على التجاوز والتسامح، إن وجد بادرة صادقة للإصلاح.

ولذا، فإن نصيحتي الصادقة لرئيس الوزراء الجديد، الأستاذ سالم بن بريك، هي أن يكون مختلفًا لا بالشعارات، بل بالمنهج. عليه أن يتعلّم من أخطاء من سبقوه، وألّا يقبل بوعود غير مضمونة، بل يطالب بتحقيقها قبل أن يبدأ مهامه.

عليه أن يُرسّخ التزامه بالدستور والقانون، وأن يحول دون انتزاع صلاحياته من أي جهة، وأن يجعل من عدن عاصمة فعلية لكل اليمنيين، وأن يعطي الأولوية لتحريك الاقتصاد، وتفعيل الإنتاج والاستثمار.

فالثروات الطبيعية – كالنفط والغاز – هي مدخله الحقيقي لتحقيق إنجاز ملموس. وإن لم يبدأ الإنتاج والتصدير خلال المئة يوم الأولى، فقد يلقى نفس مصير من سبقه، مهما كانت نواياه صادقة.

ومن هنا، فإن عليه:

إعداد برنامج حكومي متكامل، وعرضه على مجلس النواب لنيل الثقة.

تعزيز الشفافية في إدارة الموارد، وربط الموازنة بالأداء والنتائج.

تقديم موازنة حقيقية، والسعي للحصول على دعم مبكر لسد العجز.

تطوير أداء المؤسسات عبر ضبط النفقات التشغيلية وزيادتها.

جدولة رواتب منتظمة وعادلة للموظفين والعسكريين.

الاهتمام بالمغتربين، وخفض رسوم تحويلاتهم، ودعم مبادراتهم التنموية في الريف اليمني.

توفير الموارد لإنهاء الانقسام العسكري، وتوحيد التشكيلات الأمنية تحت وزارتي الدفاع والداخلية.

فإن استطاع تجاوز هذه التحديات، فقد ينجح، وقد يصنع فرقًا. لكن النجاح في اليمن لا يأتي بسهولة، إذ هناك من ينازعونه السلطة على الأرض، ولن يسمحوا له بالنجاح ما لم تُدمج القوى العسكرية والأمنية في مؤسسات الدولة.

وفي الختام، أدعو الله أن يُوفق الأستاذ سالم بن بريك في مهمته الشاقة، وأن يتمكن من اختراق جدار الجمود، وتغيير الذهنيات، وتحريك عجلة الاقتصاد، وتحقيق الاستقرار النقدي، وتوحيد مؤسسات الدولة تحت راية الجمهورية اليمنية.

فلعلها تكون سابقة تُحتذى، لا في اليمن وحده، بل في كل الدول التي أنهكتها الحروب والانقسامات، كما هو حالنا اليوم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي