شيءٌ عميقٌ، إحساسٌ بالواجب وربما بالتقصير، هو ما دفع قلمي أخيرًا ليكتب عن هذا الرجل، عن "المياحي". طال صمتي، رغم أنّ غيابه عن ساحة الكلمة يؤلمني أشدّ الألم. فكرة أن يقبع هذا الفيلسوف الصغير، صاحب الوعي المتّقد، خلف قضبان الظلم، تروّعني وتهدّ مضجعي. كيف لا، والكلمة والحرف ذاتهما يشعران بالخجل والتّضاؤل أمام قامة فكرية وأدبية بحجم هذا الفيلسوف الجمهوريّ الحداثيّ؟
إنّ الميليشيات، على اختلاف مسمّياتها وأيديولوجياتها، لطالما أبدت خوفًا فطريًا من الكلمة الحرة. تخافها مهما كان كاتبها مغمورًا، وبغضّ النظر عن مدى تأثيرها المحدود أو وصولها الضئيل. فما بالنا بكلمات رجلٍ يحيل الحرف إلى سحرٍ آسر، ويصوغ من الهجاء دهشةً عظيمة تتشكّل وتنمو وتتضخّم في وجدان قرّائه؟ رجلٌ وهب حياته لبثّ الوعي والتنوير في عقول أبناء وطنه، وانطلق بصرخته المدوّية من قلب العاصمة المختطفة صنعاء. يصرخ وحيدًا في شوارعها الخاوية التي عبث بها الخوف والظلام، صنعاء التي حوّلها الحوثيّون إلى مدينة أشباح، إلى بؤرةٍ للتوجّس والريبة من كلّ شيء.
هكذا، دون أدنى اكتراثٍ بحسابات الربح والخسارة أو المخاوف الشخصية، اختار المياحيّ أن يستقرّ في حضن أمّنا اليمن، مهد الحضارة السامية العريقة "صنعاء". ومن هناك، أعلن انطلاق معركته المقدّسة، معركة الكلمة، سلاحه الوحيد في مواجهة جبروت السلاح. كان يؤمن إيمانًا راسخًا بالحرية كقيمة إنسانية عليا، وبالنضال السلمي كسبيل لتحقيقها. ورغم أنّ الكثيرين حذّروه من مغبّة هذا الطريق الوعر، إلّا أنّ إجابته كانت قاطعةً ومؤثرة: "للحرية ثمن، ومن لا يدفع الثمن لا يستحقّها".
جمعتني بالمياحيّ أحاديث قليلة، مقتضبة ولحظية، لكنّها كانت كافية لأجزم بأنّ هذا الرجل يسمو بروحه فوق أيّ اعتباراتٍ دنيوية أو حيثياتٍ ضيّقة أو أفكارٍ مسبقة. كان ودودًا، لبقًا، قريبًا من القلب، متواضعًا تواضع الكبار. تكتب له كلمةً صادقةً فيحتضنك بحبٍّ أخويّ، ويمسك بيدك برفقٍ حتى ترتقي مدارج الكتابة، ويسعى جاهدًا لإيصال خلاصة فكره النيّر إلى أوسع شريحة من القرّاء، وكان كتابه الأول "الفيلسوف الصغير" باكورة هذا الجهد المبارك. غير أنّ اعتقاله القسريّ التعسّفيّ الإجراميّ حال دون تحقيق هذا الحلم.
في لحظات الوحدة والتأمل، كثيرًا ما أقعد مع نفسي وأفكر في محنته، خاصّةً وأنّني مررت بتجربة الاعتقال المريرة على يد الميليشيات الإجرامية نفسها التي تعتقله اليوم. كان آخرها في سجن الأمن والمخابرات، قسم مكافحة الإرهاب سيئ السمعة، حيث قضيت خمسة أشهر في زنزانة انفرادية مظلمة تحت الأرض، بعيدًا عن نور الشمس وكلّ مظاهر الحياة. هذه التجربة القاسية تجعلني أستشعر، ولو قليلًا، ما يعانيه المياحيّ في عزلته القسرية.
لكنّي، رغم الألم والقلق، أستمدّ بعض الطمأنينة من معرفتي بشخصية هذا الرجل الفذّ. إنّه قويٌّ جدًّا، يمتلك فلسفة عميقة واقتناعًا راسخًا بقيمة ما يفعله. كان يعلم جيدًا ثمن الكلمة الحرة، وكان مستعدًا لدفع هذا الثمن مهما غلا. لذلك، أجد في داخلي يقينًا بأنّه صامدٌ وثابتٌ على مبادئه. لكن ما يحزّ في نفسي حقًّا هو وضع أطفاله الصغار الحزينين، وزوجته التي تفتقده بشدّة، وأمّه المفجوعة التي يكابد قلبها ألمًا لا يوصف.
إنّنا كمجتمع يمنيّ، بل والإنسانية جمعاء، بأمسّ الحاجة إلى صوت الفيلسوف الصغير. نحتاجه ليطبّب جراحنا العميقة، ويتلمّس أوجاعنا المكبوتة، وينصف الجمال الذي طالما تغنّى به، ويرضي غرور الجميلات بكلماته العذبة، ويناهض التعصب الأعمى الذي يمزّق نسيجنا الاجتماعي، ويرفض الكهنوت الذي يسعى إلى تكميم الأفواه، ويقاتل العنصرية البغيضة التي تهدّد وحدتنا.
نحن بأمسّ الحاجة إلى أمثاله في وطنٍ ممزقٍ، مشرذمٍ، تتصارع فيه قياداتٌ تحكم من المنافي البعيدة، ويقتتل فيه ميدانيّون على مصالح شخصية ضيّقة، تاركين الوطن يئنّ تحت وطأة الفوضى والضياع.
المياحيّ رجلٌ ثوريٌّ بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، قلبٌ ينبض بالحرية والجمال، وروحٌ تتوق إلى العدل والمساواة. هو فيلسوفٌ صغيرٌ في عمره، لكنّه كبيرٌ بوعيه ورؤيته الثاقبة. يحبّ الحياة بكلّ تفاصيلها، يعشق الجمال بكلّ تجلّياته، ويتغزّل بالجميلات بصدق وعفوية. يرقص ويغني منتشيًا ببهجة الوجود، ومليئًا بالحبّ الذي يفيض على كلّ من حوله. ودودٌ وقريبٌ منّا جميعًا، لم يتعالَ يومًا على أحد، بل كان دائمًا يسعى للتواصل والتفاعل الإيجابيّ مع الجميع. في آخر حديثٍ جمعني به، ترك في قلبي وصيةً خالدة: "يجب أن لا ندع لحظة واحدة تضيع من حياتنا، وأن نستمتع بكلّ ثانية فيها قدر استطاعتنا". لقد كان هذا الرجل يثمّن الحياة حقّ قدرها، ويقدّر قيمة الوقت، ويسعى بكلّ ما أوتي من قوة لتطويع الزمن لصالح الحياة والإنسان.
منه تعلّمت درسًا لا يُنسى: أن نتمسّك بدهشة اللحظة وروعتها حدّ الثمالة، أن نقرأ الحياة بعيونٍ متجدّدة، ونشرب الكتب بنهمٍ لا يرتوي، ونعانق الجمال بكلّ أشكاله بعد أن نثقب جدار التعصب الأعمى. لو طلب منّي أحد أن أصف المياحيّ بكلمتين فقط، لما تردّدت لحظةً في القول: "الحياة بحبّ".
لكنّ آخر الأخبار الواردة عنه كانت مؤلمةً ومفزعة. فبدلًا من إطلاق سراحه، وهو المعتقل تعسّفًا دون أيّ مسوّغ قانونيّ، لمجرّد تعبيره عن آرائه كحقٍّ مشروع تكفله جميع القوانين والدساتير المحلية والدولية، تمّ نقله إلى معتقلٍ آخر مجهول بعد أن تعرّض المعتقل الذي كان فيه للقصف. أمّه المسكينة، التي يمزّق قلبها القلق على فلذة كبدها، ترتعب كلّ ليلة مع كلّ خبر عن قصف صنعاء. رغم أمّيتها وبساطة حالها، إلّا أنّها تعي تمامًا قيمة ابنها، وتبكيه يوميًّا، وتدرك أنّ القصف الذي يستهدف صنعاء يستهدفه هو أيضًا، فتبكي المدينة بأكملها في كلّ غارة.
ختامًا، ليس بوسعي إلّا أن أقول بثقةٍ ويقين: إنّ المياحيّ سيخرج لا شكّ رافعًا رأسه شامخًا، وسيلوي عنق الكهنوت بكلمته الصادقة كما فعل دائمًا. أثق بذلك، وأؤمن إيمانًا عميقًا بأنّ فرجه قريب وستقولون العزعزي قال.
-->