الحروب في أصلها مواجهاتٌ مسلّحة بين أطراف متصارعة، لكنها لا ينبغي أن تمتدّ لتطال الدين والاقتصاد وحرية الأفراد وتنقّلاتهم ومؤسساتهم. فإذا فعلت، تحوّلت إلى حروبٍ قذرة، فاقدةٍ للأخلاق، خاسرةٍ مهما طال أمدها.
لكن في اليمن، لا تُحترم أبسط قواعد الحرب؛ فالمؤسسات منهارة، والبنك المركزي منقسم، والإيرادات مشتّتة، والرواتب مقطوعة، والخدمات تكاد تختفي.
نقول: دعوا المؤسسات تعمل، دعوا البنك المركزي يُدار موحَّدًا، فعّلوا الموانئ، وصدّروا النفط لصالح الشعب، لا لصالح الحرب.
ونقول للشرعية: قدّموا نموذجًا يُحتذى في مناطق سيطرتكم، حسّنوا الخدمات، وادفعوا الرواتب بما يتناسب مع التضخّم المتسارع.
أما الحوثيون، فأنتم من يرفع شعار "المسيرة الإيمانية"، فلتقاتلوا – إن أصررتم – بقيم، لا كما تفعلون، ولا بسرقة أقوات الناس من أفواههم... وانظروا كيف فعلت هذه الحرب اللعينة باليمنيين.
وهنا أقف عند رسالة وصلتني من أحد أبرز المؤرخين اليمنيين، يتساءل فيها:
أين تقف الشرعية من مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية تجاه الموظفين والمتقاعدين؟
منذ انقلاب الحوثيين في سبتمبر 2014، وهم ينهبون أموال المتقاعدين واحتياطي النقد الأجنبي بلا رقيب ولا حسيب. واليوم، تتحمّل الحكومة الشرعية عبء دفع تلك الرواتب، لكن السؤال الذي يفرض نفسه:
لماذا تصمت إزاء استمرار النهب الممنهج لما تبقّى منها تحت مسمّى "العمولات البنكية"، دون أن تحرّك ساكنًا؟
تخيّلوا متقاعدًا كان راتبه يعادل 952 دولارًا، فتآكل بفعل الحوالات والعمولات حتى لم يتبقَّ له سوى 77 دولارًا! أيُّ ظلمٍ هذا؟ وأيُّ استنزافٍ لكرامة الإنسان بعد عمرٍ من العطاء؟
فكيف حال الأستاذ الجامعي، الذي لم يتبقَّ له سوى أقل من 100 دولار؟
والمعلّم الذي لم يتبقَّ من راتبه سوى أقل من 20 دولارًا، لا تكفي حتى لشراء كيس قمح واحد؟
بل إنّ المعلّم بات بضاعةً للمزايدات لدى بعض المسؤولين، يُصوَّرون وهم يسلّمونه سلالًا غذائية تُقدَّم له مع التصوير! أليس في ذلك إذلالٌ للمعلّم أمام تلميذه وأمام شعبٍ يعتزّ به؟
المجاعة لم تعد تهديدًا محتملًا، بل أصبحت واقعًا حيًّا. العملة انهارت، والدولار تجاوز اليوم 2600 ريال. الشرعية صامتة، والحكومة بلا خطة اقتصادية إلا في الإعلام، ومجلس الأمن غائبٌ عن تنفيذ قراراته، وكأنها لم تكن.
فهل من خلاص؟
شخصيًا، أميل إلى خيار الحسم لا الوصاية؛ فلقد دخل اليمن تحت الفصل السابع، فماذا تحقق له غير الكوارث الإنسانية؟
فالحسم ممكن وضروري، واليمن لا تنقصه الرجال ولا الإمكانات، بل الإرادة والقرار. وقد بحّ صوت فخامة الرئيس وهو يعلن موقفه بوضوح، محدّدًا ساعة الصفر، وعام الحسم، ومعركة الخلاص. نحن نراهن على ذلك ونثق بعزيمته؛ أما إذا تخاذل زملاؤه والداعمون، فسنكون أمام عجزٍ مزمن يجعل من الحسم حلمًا بعيد المنال، ومن البديل الوطني الجامع أمنية فد لا تجد سبيلًا للتحقّق.
في هذه الحالة فقط، قد يكون من المقبول – مؤقتًا – القبول بوصاية فنية جزئية، تقتصر على الملفات الاقتصادية.
نعم، الوصاية انتقاصٌ من السيادة، لكنها انتقاصٌ فُرض علينا من متمرّدين انقلابيين إرهابيين، ومن شرعيةٍ فشلت حتى الآن في اغتنام الفرص المتاحة لها. فإذا استمرّ العجز، واستمرّ العبث، فقد تكون الحكمة في القبول بوصاية فنية دولية مؤقتة، تُعنى بالشأن الاقتصادي، وتُحيّد لقمة العيش عن ساحة الصراع، وتخفّف من معاناة المواطن المنهك.
القرار 2216، الصادر في 14 أبريل، والذي كان سعر الدولار حينها 215 ريالًا، يدعو كثيرون إلى جعله سنة أساس للرواتب والأسعار، سواء بالدولار أو بالريال. ويُدرك معنى ذلك رجال الإحصاء والمسوحات، والباحثون في ميزانية الأسرة.
ومعلوم أن القرار 2216 تضمّن 25 بندًا، آخرها يقول: "يقرر المجلس أن يُبقي المسألة قيد نظره الفعلي"... وقد طال الزمن، وطال النظر، حتى أصيب المجلس بالعمى، فلم يَعُد يرى شيئًا!
لقد مرّ على القرار 2216 عشر سنوات، ولم يتحرّك مجلس الأمن لتنفيذه، لا بفرض عقوبات ناجعة، ولا باستخدام القوة التي يتيحها الفصل السابع.
بل إنّ أمريكا، وهي عضو دائم في مجلس الأمن، باتت تستخدم القوة في اليمن لأهداف أخرى، غير تلك التي تضمنها القرار، ودون تفويض من المجلس! فالعقوبات التي اتخذها المجلس لم تُجدِ نفعًا؛ فلا يزال مَن شملهم القرار يعبثون باليمن، ويُعيقون كل مسعى للسلام. ولم يستخدم مجلس الأمن القوة لتنفيذ قراراته.
فالسلاح يتدفّق إلى الحوثيين، والدعم الإيراني لا ينقطع، والحوثي بات يشكّل تهديدًا حقيقيًا للطائرات الأمريكية الحديثة، باستخدام أسلحة إيرانية متطوّرة، أو بخبرات إيرانية-لبنانية وتصنيعٍ محلّي، بينما تقارير لجان الأمم المتحدة ولجنة الخبراء لا تُغيّر شيئًا من الواقع.
فهل بقي في "نظر" المجلس نظر؟!
عشر سنوات من "النظر" في المسألة اليمنية كانت كافية لإصابة المجلس بالعمى؛ فلم يَعُد يرى تدهور الريال، الذي فقد أكثر من 92% من قيمته منذ صدور القرار، ولا التدهور الإنساني والاقتصادي الكارثي الذي عمّ البلاد.
إن لم يُفعّل مجلس الأمن قراره، فليلغِه، أو فليفعّل – على الأقل – وصاية فنية اقتصادية عاجلة تُشرف على إدارة البنك المركزي الموحّد، وتعمل على إنشاء صندوق دولي للرواتب والخدمات، وفرض هدنة اقتصادية إنسانية بإشراف هيئة مستقلة تضمن النزاهة والعدالة في التوزيع.
نعم، نحن بحاجة إلى خلاص اقتصادي يُمهّد للحسم السياسي والعسكري. فالحسم لا يُبنى على جوع الناس، ولا على فسادٍ في جسد الشرعية، ولا على تمكين الانقلابيين كأمرٍ واقع، بل يُبنى على مشروع وطني جامع، وجيشٍ وطني محترف، ومبادئ ديمقراطية، وحرية، واقتصادٍ حرّ، وخدماتٍ عادلة!
-->