خاطرة جمعة (5) – ما بعد رمضان... تدبّر: ما يُحبّه الله وما لا يُحبّه في السياق القرآني

د. علي العسلي
الخميس ، ٠١ مايو ٢٠٢٥ الساعة ٠٧:١٣ مساءً

 

في خضمّ الحياة، تتعدّد المحبوبات، وتتزاحم المشاغل والارتباطات: الأسرة، المال، التجارة، المسكن، وغيرها من متطلّبات العيش. غير أنّ القرآن الكريم، في لحظة صفاءٍ روحي، يأتي ليضع ميزانًا دقيقًا يكشف حقيقة الإيمان، ويختبر معدن المحبّة في قلب كلّ مؤمن.

فالله يُحبّ الذين يحبّونه أكثر من الدنيا وما فيها... الله يُحبّ الذين يضحّون في سبيله ويجاهدون... الله يُحبّ الذين لا يُقدّمون مالًا ولا أهلًا على أمره... الله يُحبّ الذين تكون محبّتهم له فوق كلّ محبّة.

فإن كنت حريصًا على الحصول على محبّة الله، فاجعل محبّته فوق كلّ محبّة، فهي المعيار الأوّل لقبولك عنده. وإذا أردت أن تكون من المحبوبين عند الله، فقدّمْ ما يُحبّه الله على ما تحبّ، ولو كان أعزّ الناس إليك، أو أغلى الأشياء عندك.

ولتتدبّر الآية (24) من سورة التوبة، فهي الكاشفة للمعنى العميق، وتحمل تحذيرًا إلهيًّا بالغ الشدّة، وتنبيهًا للمؤمنين إلى مقياس محبّة الله ورسوله والجهاد في سبيله:

"قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة: 24)

وقد جاءت هذه الآية بعد توجيهٍ حاسم في الآية التي سبقتها مباشرة:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (التوبة: 23)

إذ ينهى المؤمنين عن اتخاذ أقاربهم أولياء إذا اختاروا الكفر على الإيمان، ليُكمِل الله الاختبار الأصعب بالآية 24: هل أنتم مستعدّون لتقديم محبّته على محبّة من تحبّون من أهل ومال وبيت ومكانة؟!

فإذا اختار الأقارب الكفر، فلا ولاء لهم، بل الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين.

إنّ الآية تعدّد جميع ما يحبّه الإنسان فطريًّا: (الآباء، الأبناء، الأزواج، الإخوة، العشيرة، المال، التجارة، المساكن)، لكنها تجعل محبتها دون محبّة الله ورسوله والجهاد.

والتقديم هنا في المحبّة، وليس فقط في الولاء، مما يجعل المعيار قلبيًّا وسلوكيًّا.

فالمؤمن مقياس اختباره الإيماني الحقيقي هو مدى تقديمه لله على هواه، وعلى مشاعره الفطرية تجاه أحبّائه. وأعظم حبٍّ لله هو الاستعداد للتضحية بالمال والنفس في سبيله. فالولاء مرتبط بالإيمان لا بالدم، فمَن اختار الكفر لا يُوالى، ولو كان أقرب الناس إليك.

الدروس والعبر والرسائل:

1. المحبّة ليست مشاعر فقط، بل موقف واختيار:

المحبّة هنا ليست مجرّد مشاعر قلبية، بل مواقف عملية تتجلّى عند التعارض: هل ستُقدِّم مرضاة الله أم إرضاء الناس؟ هل ستنصر دين الله أم تحافظ على راحتك ومصالحك؟

2. ميزان المحبّة الحقيقي:

المؤمن يُقاس بحبّه لله ورسوله، لا بما ينطق به فقط، بل بما يضحّي لأجله.

3. الجهاد عنوان الصدق:

ليس بالضرورة القتال، بل كلّ ما يُبذل في سبيل إعلاء كلمة الله: بالكلمة، بالعلم، بالمال، وبالنفس.

4. التهديد لمن قدَّم محبوباته الدنيوية:

"فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ": تهديد صريح لمن قدّم الدنيا على الآخرة، ولمن جعل حبّ الأسرة أو المال حاجزًا أمام طاعة الله.

5. الدنيا ليست معيار التفضيل:

كثرة الأموال والمساكن والتجارة ليست علامات توفيق، إذا لم تكن وسيلة للتقرّب إلى الله.

6. محبّة الله فوق كلّ شيء:

هذه الآية تُجرِّد الإنسان من كلّ تعلّق دنيوي إذا كان على حساب محبّة الله، وتدعوه لمراجعة سلّم أولوياته. فهي صرخة توقظ الضمير: من أحببت أكثر؟ من قدّمت في حياتك وقراراتك؟

في ضوء ما يحبّ الله:

إنّ الله يحبّ من يُقدّم محبّته على كلّ محبّة، ومن يجاهد في سبيله بالقول والعمل والمال والنفس، ومن يثبت عند المحن والفتن، ومن لا يضعف أمام مغريات الدنيا.

فالآية دعوة إيمانية لأن نعيد ترتيب أولوياتنا، ونزن أعمالنا ونيّاتنا بميزان محبّة الله ورضاه. فإن أحببنا الله أكثر من كلّ شيء، أحبّنا الله، وجعلنا من الفائزين.

ختامًا...

تأملات هذه الآية تجعلنا في مواجهة مع الذات: هل نحن من الذين يحبّون الله ورسوله فوق كلّ محبوب؟ هل نحن مستعدّون للتضحية إن تعارضت مصالحنا مع إرضاء الله؟

إنّ آية واحدة من كتاب الله كفيلة بأن تهزّ أعماق القلب، وتضعك أمام مرآة الإيمان: هل أنت حقًّا من الذين يحبّون الله؟

فإن وجدتَ في قلبك تقديمًا لمحبة الدنيا، فبادِر إلى التوبة، واجعل محبّة الله فوق كلّ محبّة، لتكون من أوليائه وأحبّائه في الدنيا والآخرة.

وجمعتكم مباركة مقدّمًا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي