التحرير المؤجل: كيف يُعاد ترويض الميليشيات لخدمة المصالح الإقليمية والدولية؟

عبدالباري علاو
السبت ، ٢٦ ابريل ٢٠٢٥ الساعة ٠٢:١٦ صباحاً

مقدمة تأملية

 

أن تفرط في التفاؤل اليوم بشأن اليمن، فربما يلزمك خوذة، لا للاحتماء من الرصاص، بل لتخفيف ارتطام الحقيقة حين تسقط على رأسك كصخرة تسقط من علٍ. ففي زمن تزييف الوعي، لا شيء أكثر خطرًا من الحماسة الزائفة، ولا أحد أكثر عرضة للخديعة من أولئك الذين يصدقون أن جنود المارينز جاؤوا ليحرروهم من قبضة إيران.

 

بين التحرير وإعادة التدوير: قراءة في المشهد اليمني الراهن

 

في الأشهر الأخيرة، برزت حملات عسكرية واستخباراتية أمريكية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، بزعم حماية الملاحة الدولية من تهديدات الحوثيين. منذ نوفمبر 2023، نفذت الولايات المتحدة وبريطانيا، عبر عملية "حارس الازدهار"، ضربات جوية استهدفت مواقع حوثية في الحديدة وصنعاء، ردًا على أكثر من 70 هجومًا حوثيًا على سفن تجارية، وفقًا لرويترز وتقرير الأمم المتحدة لعام 2024. هذه التحركات استبشر بها كثيرون باعتبارها مقدمة لحسم وشيك، وسقوط مرتقب للحوثيين، بل ذهبت بعض التحليلات المفرطة في التفاؤل إلى تصور سيناريو تدخل أمريكي مباشر يُفضي إلى "تحرير صنعاء".

 

لكن الواقع على الأرض ينذر بسيناريو مختلف تمامًا: واشنطن لا تسعى لإسقاط الحوثيين، بل إلى تأهيلهم للمرحلة القادمة.

 

الولايات المتحدة: مقاربة ناعمة لإدارة الصراع لا حسمه

 

الموقف الأمريكي الراهن تجاه جماعة الحوثي يتسم بازدواجية فاضحة. فمن جهة، تصنّف واشنطن الجماعة ضمن التنظيمات المزعزعة للاستقرار، وتدين هجماتهم على السفن، لكنها من جهة أخرى تبقي قناة التواصل معهم مفتوحة، سواء بشكل مباشر أو عبر وسطاء مثل سلطنة عُمان. ففي يناير 2024، أعادت الولايات المتحدة تصنيف الحوثيين كـ"منظمة إرهابية أجنبية"، لكن البيت الأبيض أكد أن الهدف هو "تعديل سلوكهم" وليس إسقاطهم، وفقًا لتصريحات نقلتها رويترز.

 

بل إن تقارير مراكز الأبحاث الأمريكية أشارت إلى ضرورة "دمج الحوثيين في العملية السياسية كجزء من أي تسوية شاملة"، وهو طرح يتماهى مع المقاربة الأممية التي تركز على وقف الحرب أكثر من إنهاء الميليشيات. على سبيل المثال، تقرير لمعهد بروكينغز (2023) دعا إلى "تجنب عزل الحوثيين" لضمان استقرار التسوية، بينما أوصت مجموعة الأزمات الدولية (ICG) في يناير 2025 بإشراكهم في حوار سياسي لتجنب انهيار الهدنة. هذه الازدواجية ليست جديدة، ففي 2021، أزالت إدارة بايدن الحوثيين من قائمة الإرهاب لتسهيل المساعدات الإنسانية، مما عزز قدرتهم على التفاوض، كما أشار تحليل لمركز واشنطن للدراسات. وكأن واشنطن تقول: "سنضربكم بيد، ونمد لكم يد التفاوض بالأخرى"، في رقصة دبلوماسية تُبقي الحوثيين كورقة ضغط إقليمية، لا كعدو يُراد القضاء عليه.

 

السعودية وإيران: تفاهم الضرورات لا قطيعة المعارك

 

على الضفة الأخرى، يبدو أن السعودية قد دخلت مرحلة "إعادة التموضع"، فبعد اتفاق بكين مع إيران، تراجعت لهجتها التصعيدية، وبات هَمُّ الرياض ينحصر في تحييد التهديد المباشر على حدودها، حتى لو كلفها ذلك الاعتراف الضمني بالحوثيين كجزء من المشهد السياسي اليمني. ففي مارس 2023، توسطت الصين في اتفاق بكين الذي أعاد العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، مما أفضى إلى تقليص العمليات العسكرية السعودية في اليمن، وفتح مفاوضات غير مباشرة مع الحوثيين عبر وسطاء عُمانيين، وفقًا لرويترز.

 

لكن خلف هذا التهدئة، تُخفي الرياض أجندة أعمق: إبقاء اليمن سائلًا، ضعيفًا، يركع تحت عباءتها. استراتيجيتها التاريخية، منذ معاهدة جدة 2000 التي حسمت نزاعات حدودية مع اليمن، تكشف عن حلمٍ قديم بجارٍ تابع لا يُزعج أحلامها الجيوسياسية، وربما منفذ بحري على بحر العرب يُحقق طموحها التوسعي، كما أشارت تقارير مركز صنعاء للدراسات (2023). فالفوضى المُدارة تخدم الرياض، إذ تُبقي الحوثيين كورقة ضغط دون الحاجة إلى حسم يُربك حساباتها.

 

ولا تقل الإمارات دهاءً، فهي تُجزئ اليمن إلى كانتونات تُدار من أبراجها الزجاجية، تسعى للسيطرة على جزر مثل سقطرى وممرات مائية كباب المندب وخليج عدن و "الساحل الغربي"، إما مباشرة أو بالوكالة لمصالح غربية، بل وربما إسرائيلية، كما وثّقت الجارديان (2024) عندما كشفت عن دعم أبوظبي للمجلس الانتقالي الجنوبي بتقنيات متطورة. هذه الفوضى المقصودة تُطيل أمد الصراع، مُبقية الحوثيين كجزء من مسرحية إقليمية تُخرجها عواصم الخليج.

 

أما إيران، فتمارس لعبة الانتظار الذكي. ضغوط الغرب على الحوثيين تُعتبر – بالنسبة لطهران – ثمنًا معقولًا في مقابل تثبيت نفوذها غير المباشر في شبه الجزيرة، خاصة في ظل انشغال واشنطن بترويض الميليشيا أكثر من كسرها. تقرير الأمم المتحدة (2024) وثّق استمرار إيران في تزويد الحوثيين بصواريخ "قدس" وطائرات شاهد-136، مما يعزز نفوذها دون مواجهة مباشرة مع الغرب.

 

الحوثي: من "الصرخة" إلى المفاوضات

 

لا يخفي الحوثي محاولاته لتقديم نفسه كقوة أمر واقع يجب التعامل معها. زياراته المتكررة إلى مسقط، وقبوله الضمني بفكرة التسوية، ليست سوى أوراق تفاوضية. فعلى سبيل المثال، في يوليو 2024، قاد وفد حوثي برئاسة محمد عبد السلام مفاوضات في مسقط مع وسطاء أمميين وعُمانيين لمناقشة خارطة طريق للسلام، وفقًا لتقرير نشرته بي بي سي. لكنه في الوقت ذاته يحرص على إبقاء "الصرخة" حيّة، ويُظهر أنه لا يزال ينتمي لمحور المقاومة، حتى لو اضطر لتعديل لهجته عند المرور عبر "بوابة فيينا"، حيث تُصقل الشعارات في أروقة الدبلوماسية العالمية، بعيدًا عن صرخات الميدان.

 

وفيما الحوثي يخوض معركته الدبلوماسية، يظل بعض المتفائلين في الخارج يحلمون بيوم تُوزع فيه مفاتيح الحرية من يد الجنود الأمريكيين، دون أن يدركوا أن هؤلاء الجنود قد لا يكونون أكثر من طواقم ترتيب المشهد، لا صنّاع خلاص.

 

صناعة الوهم: عندما يُمنح إبليس جائزة نوبل للسلام

 

حين يُعاد تدوير الميليشيات دوليًا، وتُمنح لها شرعية التفاوض، يصبح من غير المستبعد أن نرى في المستقبل أحد قادة الحوثيين ضيفًا في برنامج تبادل ثقافي في واشنطن، أو متحدثًا في مؤتمر أممي عن السلام، ما دام قد التزم بـ"ضبط النفس" تجاه المصالح الغربية. تاريخيًا، ليست هذه سابقة غريبة؛ ففي أفغانستان، تفاوضت الولايات المتحدة مع طالبان منذ 2018 في الدوحة، ليُصبحوا لاحقًا شركاء في حكومة كابول، كما وثّقت تقارير الجارديان.

 

هذا ليس خيالًا ساخرًا، بل واقع عالم اليوم، حيث تتحول أدوات الصراع إلى أوراق ضغط، وتتحول الجريمة إلى "رواية قابلة للنقاش" في حال تعهد مرتكبوها بعدم تهديد خطوط التجارة الدولية.

 

خاتمة: من يكسر القيد، ومن يلعقه؟

 

التحرير لا يأتي محمولًا على أجنحة المارينز، ولا يُنجز عبر اجتماعات الفنادق، بل يُصنع بأكتاف من قرروا كسر القيد بأنفسهم، لا أولئك الذين اعتادوا لعقه كل صباح. بينما تُراقص الميليشيات أسيادها الإقليميين والدوليين في سيرك الفوضى المُدارة، تُباع اليمن على طاولات التفاوض بثمنٍ بخس. إن سؤال اللحظة الحاسم ليس: متى تسقط الميليشيا؟ بل: متى ينهض المشروع الوطني الجامع؟ ومتى يكفّ العبيد عن عبادة جلاديهم، ويتوقف المخصيّون عن تزيين أقفاصهم وتغليفها بأوهام التحرير المعلّب؟

 

--------

المصادر:

• رويترز: هجمات الحوثيين على السفن (نوفمبر 2023)، تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية (يناير 2024)، اتفاق بكين (مارس 2023).

• بي بي سي: مفاوضات الحوثيين في مسقط (يوليو 2024).

• الجارديان: مفاوضات طالبان في الدوحة (2018-2021)، دعم الإمارات للمجلس الانتقالي الجنوبي (2024).

• تقرير الأمم المتحدة (2024): هجمات الحوثيين ودعم إيران بالصواريخ.

• معهد بروكينغز: تقرير عن دمج الحوثيين في التسوية السياسية (2023).

• مجموعة الأزمات الدولية (ICG): توصية بإشراك الحوثيين في الحوار (يناير 2025).

• مركز واشنطن للدراسات: تحليل إزالة الحوثيين من قائمة الإرهاب (2021).

• مركز صنعاء للدراسات: تقرير عن الاستراتيجية السعودية في اليمن (2023).

-->
الحجر الصحفي في زمن الحوثي